top of page

ملحمة الحرية

علي طالب

" لم اعرف ما افعل، في العام 1959 كانت شوارع بغداد مليئة بالمظاهرات مع لافتات قبيحة ... قلت في نفسي سأصنع نصبا بطول خمسين لافتة.... خمسين مترا بشكل عقلاني " 

هكذا فكر المعماري رفعت الجادرجي عندما طلب عبدالكريم قاسم رئيس الجمهورية العراقية تصميم نصب يخلد تأسيس النظام الجمهوري في العراق....

" ليس لي أي دخل بالمنحوتات على النصب " يقول رفعت 

توجه رفعت الى النحات جواد سليم وقال له ...

- عندك لافتة عرضها خمسين متر، لازم تصور عليها ثورة 1958....

أجاب جواد

- حيــــــــــل .... هاي محد مسويهة من زمن الآشوريين 

نصب الحرية ..... معانيه و ما يمثله ....

رفعت الجادرجي

 فريق كلكامش السومري امام نصب الحرية بعدسة الرائع علي آغا

بعد احداث العام 1958 و تحول نظام الحكم في العراق من ملكي الى جمهوري طلب عبد الكريم قاسم الرئيس العراقي من المعماري الأستاذ رفعت الجادرجي تصميم نصب يخلد ذكرى هذه الاحداث ... و لما كان الشارع العراقي آنذاك لايزال مشحونا بالاجواء السياسية كانت المظاهرات تملأ الشوارع لذلك لم يحتر رفعت الجادرجي في اختيار شكل النصب حيث انه استمده مباشرة من الشارع و قرر ان يصنع اكبر لافتة في وسط ساحة التحرير .... حيث استنبط تصميمه من اللافتات المرفوعة على ايدي المتظاهرين و صمم لافتة بعرض 50 مترا في ساحة التحرير...

ثم اتصل بالنحات جواد سليم و قال له ان عبدالكريم قاسم طلب منه نصبا يؤرخ لاحداث 1958 و تفاجأ جواد سليم من فكرة الجدارية التي ينحت عليها عناصر رمزية سطحية غير ثلاثية الابعاد و بهذا الحجم و قال لرفعت:

حيـــــــــل .... هاي محد مسويها من زمن الآشوريين

 

 

و فعلا هذا كان نمط النحت الآشوري جداريات مع عناصر سطحية ... و أيضا لنا ان نتصوره شكلا مشابها لاشكال الأختام الإسطوانية الأكادية او السومرية و التي عادة تكون مستطيلة الشكل حيث يكون ضلعي المستطيل الافقيين طويلين بشكل كبير مقارنة بالضلعيين العاموديين....

 

الآن كيف صور جواد سليم ذلك النصب ؟؟

قاعدة النصب اثناء البناء بعرض خمسين مترا و ارتفاع خمسة عشر متر 

" بالعام 1959 إجتني رسالة من جواد سليم ... كالي راح اجي لروما اسوي نصب 14 تموز... نصب الحرية.....اني جان عندي مشغل بروما .. خاص الي ... اجة جواد عندي للمشغل و أخذ مني لوحة و طين أصطناعي... و بدة ينحت وسط نصب الحرية... اللي هو يمثل السجين السياسي ديكسر القضبان و بجنبة الحرية تحمل المشعل ..... بعدين بدة يكمل الجوانب اللي هي قبل الثورة على اليمين و بعد الثورة على اليسار..... كان يصمم بدون مخطط على ورق لان كل التخطيطات اللي عملهة جواد في بغداد ما جابهة ويا لروما "

هكذا يروي تلميذ جواد سليم النحات محمد غني حكمت قصة النصب من طرفه...

 

انتهى جواد من تصميم النصب و النموذج و كان عليه ان يبدأ تنفيذ المشروع .....

محمد علي حكمت

المخطط الإبتدائي للسجين السياسي و الحرية 

بعد ان انتهى جواد من تصميم النصب بدأ بصب المنحوتات بحجمها الطبيعي استعدادا لرفعها الى الجدارية ... استغرقت عملية صنع المنحوتات حوالي العامين ... كان جواد يعمل هو و فريقه لاتمام أربعة عشر قطعة .... و لم تكن العامين سهلة على جواد حيث تخللتها بعض المضايقات .....

" بالسنة الأولى و بذكرى 14 تموز طلبوا من جواد يسرع بالعمل و تنفيذه ... و جواد ما ممكن يستعجل بالعمل .... لوازم العمل تستوجب التأني .... و جواد تحت هذا الضغط تألم و فعلا تمرض " يقول محمد غني حكمت ...

" جواد لمن بدة يشتغل بالنصب .. صارت عليه مؤامرات ... بحيث حرضوا عبد الكريم قاسم بعد أن استكمل جواد التصميم حرضوا عبد الكريم قاسم و كالولة لازم يكون الك تمثال داخل هذا النصب .... وبدوا يضغطون على جواد من اجل إضافة تمثال لعبد الكريم في النصب .... ويضغطون على رفعت الجادرجي .... و هاي الضغوط سببت هزات لجواد لانو هو فنان مكتمل عمله... العمل واصل الى مرحلة النضوج ... و يجيلة بعدين امر انو سوي تمثال آخر و دخلة بالتصميم اللي انت مهيئة ... أستاذ جواد رفض .... اكثر من مرة رفض " هكذا يصف النحات نداء كاظم تلك الفترة من مراحل نصب الحرية ...

" خاطبوا جواد و بشكل غير رسمي ان يعمل وجه جانبي لعبد الكريم قاسم ليضعه في قرص الشمس اللي فوك الجندي في وسط النصب.... بس جواد اعتذر " يقول محمد غني حكمت 

" الأستاذ رفعت الجادرجي ... كللهم ميخالف جواد راح يشتغل و يضيف عبد الكريم للنصب .... وطبعا هو جذب عليهم ... علمود يخلص جواد من الضغوط " يذكر النحات نداء كاظم و يكمل ...

" أستاذ جواد مر بأحباطات و مر بإنتكاسات صحية الى ان اكمل تصميم عناصر النصب و استطاع ان يجيبهن من إيطاليا لبغداد" 

بعد ان أصبحت عناصر النصب جاهزة في بغداد و لم يبق إلى تعليقها على اللوحة ماذا حدث؟؟

الجندي و هو يلوي القضبان عن السجين السياسي و فوقه نرى الشمس التي كانت احد المقترحات ان يوضع فيها نحت جانبي لوجه عبد الكريم قاسم و رفض جواد ذلك

وصل جواد الى بغداد و وصلت جميع قطع النصب المصنوعة من البرونز و حان وقت اكمال العمل برفع القطع الى اللوحة في ساحة التحرير....

" إجتني رسالة من جواد ... بشهر الواحد 1961 .... يكول بيها ... ما عدنا احد بالعراق ... في بغداد .. يلحم برونز ... فأرجوك حضرلي لحيمجي من معمل ميكولوجي (في إيطاليا) " يروي محمد غني حكمت و يكمل قوله:

" في لحظة وجودي في السفارة .... دا اكمل معاملة هذا اللحيمجي ... ألتقيت بسفير عراقي صديقي بثانوية الاعظمية ... من بيت النايب ... فسألتة ... تباوسنا ... شلونك .. شلونك ... كتلة شخبار بغداد؟ ... كلي تعرف ابغداد شنو صار؟ ... كتلة لا خير؟ .... كلي جواد سليم مات. "

" اتخيل اني باللحظة اللي جاي احصل الموافقة مال اللحيمجي سمعت الخبر .... شسوي اني؟ .. كتمت الموضوع و ما كلت للحيمجي لان كلت خاف يبطل ... خاف ميروح ... فعبرتة وصلتة للمطار و راح "

عندما سمع النحات خالد الرحال بخبر موت جواد سليم اسرع وهو يحمل معه حقيبة سوداء بداخلها كمية من الجبس الخاص بالنحت وقام بوضع الجبس برفق على وجه جواد فأنجز عملاً نادراً بنحت قناع ٍ لوجه جواد سليم سمي بقناع الموت ... ويذكر محمد غني حكمت بأنه خلال زيارةٍ قام بها الى روما وجد قناع الموت في حانة ( جينو ) الايطالية وكان يرتادها خالد الرحال وبعض الفنانين وكان القناع موضوعاً ومهملاً في زاوية من المكان فما كان من محمد غني حكمت الا ان طلبه من خالد الرحال للإحتفاظ به فأعاده الى بغداد مجدداً ووضعه في مشغله شاهداً على مرحلة ثريةٍ من الفن العراقي الحديث.

 

جواد ساعة وفاته و تبدو اثار الجبس على وجهه.... لربما كانت هذه الصورة من الصور القلائل التي تظهر ابتسامة على محياه
 

كونها رافقت جواد في حياته و خاصة في سفره الى إيطاليا و عودته لإنشاء نصب الحرية إرتأى المعماري رفعت الجادرجي ان تتسلم لورنا سليم (زوجة جواد) إدارة المشروع و إستكمال تعليق المنحوتات في أماكنها المناسبة على الجدار ..... لورنا فنانة أيضا وهي الأكثر قربا من جواد و من نصب الحرية ... 

فعلا رسمت لورنا المخطط الذي وفقا له سترفع العناصر الأربعة عشر للنصب و كانت تحضر يوميا الى مكان النصب و تشرف على الاعمال هناك حتى اكتمل رفع كل الأجزاء ... 

" لم أفكر ابدا في ترك العراق بعد وفاة جواد، لأن زوجي كان علما في بلده، و أردت لأبنتيه ان تكون فخورتين بأبيهما، و أن تعرفا أي فنان كبير كان و لو أخذتهما وهما في سنهما الصغيرة و عدت الى برطانيا فقد لا تعرفان عنه شيئا " تقول لورنا ...

بعد إكمال العمل على النصب منحت لورنا سليم الجنسية العراقية .. فرحت بالجنسية و صار بإمكانها ان تلتحق بهيئة التدريس في كلية البنات كموظفة عراقية لا كأجنبية متعاقدة .... 

في تموز عام 1961 تم افتتاح نصب الحرية بغياب مبتكره جواد سليم و غياب من اكمل العمل لورنا سليم حيث لم توجه لها دعوة لحضور الافتتاح و عندها سافرت الى برطانيا ....

و بعد عودتها الى العراق كان اول ما فعلته هو زيارة النصب و شعرت انه ليس عظيما وحسب، بل هو متعة للنظر و محرك للروح .... و في تلك اللحظات الراعشة التي كانت تقف فيها مثل كائن ضئيل أمام ذلك الصرح العالي تذكرت قول الفنانون الإيطاليون لجواد بأنه محظوظ لحصوله على فرصة العمل على إنجاز نصب بهذه الفخامة .....

 

لورنا سليم الى جنبيها مريم و زينب ابنتي جواد واقفون امام نصب الحريية و هو يشارف على الانتهاء

معان النصب الأربعة عشر و التي كانت بهذا العدد إشارة الى الرابع عشر من تموز 1958 يوم الثورة

1- الحصان

 

رمز العنفوان و الفحولة و الأصالة منه إبتدأ جواد قصته.... إلى أقصى يمين النصب ... حصان جامح أطلق من جوفه صرخة افرغت اخر ما في رئتيه من هواء فكانت ناقوس الثورة ..... اجتمع حوله اربع رجال، ثلاث منهم امسكوا به بقوة و بدى انهم يسحبوه الى الأسفل... محاولة لإسقاطه .... يرمز ذلك إلى إسقاط تمثالي الجنرال مود (قائد القوات البرطانية في العراق) و الملك فيصل وهما يمتطيان حصانين، اسقط التمثالين يوم 14 تموز من قبل الجماهير الحاشدة... وهناك قراءة ثانية لهذا الرمز و هو ان الثلاثة يساعدون الحصان على التخلص من خياله الذي أسقطته الجماهير فيتحرر الحصان من العبودية و السخرة... في حين يرفع الرجل الرابع لافتة إيذانا بإنطلاق الثورة ....

 

 

2-  رجل و امرأة

 

الى جانب الحصان و بإتجاه اليسار .... نصفي المجتمع ... دورهما متساوي ... يكمل احدهما الآخر .... وكل تحرك يخلو من احدهما فهو ناقص .... يركز جواد على ان الثورة تحمل على ايدي الرجال و النساء على حد سواء ... فنراه رمز الى رواد الثورات و حاملي اللفتات برجل و امرأة فساوى في مسؤولياتهما و مشاركتهما في الثورة إنطلاقا من ايمانه الشخصي لا بل من ثوابت ايمانات الثورات .... الثورة لم تكن سياسية بل كانت اجتماعية كذلك دعت الى حرية المرأة التي سنقرأها في اكثر من موضع في نصب الحرية .... تمثيل المرأة في العنصر الثاني بشكل موازي للرجل ذو دلالة على ان الثورة تؤمن أيضا بحقوق و واجبات متساوية تماما بين عنصري المجتمع .... و تطالب المرأة بالتحرك و لعب دورها و مسؤوليتها للنهوض بالواقع السياسي و الاجتماعي فلا تكمل الثورة بالرجل فقط و لا تنتظر المرأة من الرجل ان يعطيها حريتها بل الحرية تؤخذ.....

 

و كل جنس له نقص بمفرده .... أما الحياة فبالجنسين تكتمل .... كما يقول الزهاوي ....

 

نراهما و بكل ما أوتيا من قوة يرفعان اللافتات للمطالبة بالحقوق حتى كادت الإذرع منهما ان تلامس السماء .... حركة السيقان تأتي امتدادا للعنصر الأول (الحصان و الرجال الأربع) فتكمل الحركة الإنفعالية للثورة من اليمين الى اليسار.... ونرى لافتات من البرونز طائرة من حولهما تبعث في نفس الناظر انطباع الحشود و الكثرة حتى لا يبدو من هؤلاء المتظاهرين إلا اللفتات التي اعتلت رؤوسهم.

 

3-  طفل

 

إستكمالا لعنصري الحياة الذكر و الانثى يستمر جواد في رصد العناصر الأساسية للثورة و الديمومة .... طفل رمز الامل و المستقبل ..... الطفل في نصب الحرية عنصر تفاعلي .... تنظر اليه فتراه يتجه اليك .... يرفع ذراعيه نحوك كأنه يريدك ان ترفعه كما يفعل الأطفال.... و هنا تكمن الفكرة .... العناية بالطفل و تربيته و تعليمه هو اهم ما يجب فعله لخلق تغيير حقيقي في المجتمع لبناء المجتمع.... يطالب جواد من خلال النصب ان يتم الاهتمام بالطفل لذلك نراه قد صمم الطفل و كأنه يطالب بالاهتمام يطالب بالعناية فيرفع ذراعيه للمتلقي ....

 

يقول الأستاذ نداء كاظم:

 

" هو كان يحب هذا لطفل .... حب رهيب .... لانهو جان الوجه مال الطفل يشبه بنتة زينب،هو مشتغل وجه زينب .... "

4- أمرأة غاضبة

 

 أمرأة تستشيط غضبا .... ترتسم على وجهها ملامح الغيض .... أراد جواد ان يمثل الحال في ذلك الوقت على انه لم يعد يحتمل ولابد من الثورة و التغير ... فنراه يمثل ذلك بأمرأة في اعلى حالات الغضب الى درجة انها رفعت عبائتها .... إستلهم جواد الموروث الشعبي العراقي لإيصال فكرة عن حال المجتمع آنذاك ... حيث انه من الأعراف الشعبية إذا حل امر جلل أو خطب كبير راحت المرأة ترفع عباءتها و بها تلف اعلى جسمها لتعبر عن اقصى حالات الغضب و الحزن ... لذلك وظف جواد هذه الفكرة من خلال هذا التمثال لإظهار المآسي و العذابات التي مرت على الشعب ....

 

كشف الرأس او رفع العباءة و شق الجيب و غيرها من الممارسات المشابهة هو موروث ليس عراقي وحسب بل انه قديم جدا و يقول المصريون في احد امثالهم (اكشف رأسي و ادعي عليك) و حتى في الموروث العربي القديم (اكشف رأسي للدعاء) و ليس ببعيد اذ خلعت احدى الأمهات الثكالى حجابها امام رئيس البرلمان العراقي و بعض النواب لفقدانها ابنها في مجزرة سبايكر.....

 

 هي من  الرسائل الجمالية في الموروث يتم التركيز فيها على الاستعارة لإيصال معنى الشكوى والاستغاثة أو هي إعلان عن فقدان الناصر وتهدم المتكأ والملاذ.

5- الشهيد

 

 

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم

 

 

بدأت الثورة و خرجت المظاهرات و اشتعل الكل بالغضب ...... التمرد و الثورة و الإعتصام لابد ان تسفر عن ضحايا ... لابد ان يقدم بعض الاحرار ارواحهم لتؤدى المهمة لابد من التضحية ... لابد من تقديم القرابين على مذبح معبد الحرية.... سيسقط الشهداء طلب الحرية و ستخط دماءهم الطريق للاحرار لإكمال المسيرة ....

العنصر الخامس من عناصر النصب هو صورة اخرى من صور الثورات ..... الشهيد ... لابد ان يكون هناك شهداء في الثورة .... الشهيد ممدد على الأرض احاطت به ثلاث نسوة .... الأم ... الأخت ... الحبيبة ... هم عالم الرجل يقدم لهن حياته ... وهو عالمهم .....

 

الام تحيط بذرعها جسد ابنها و تريح رأسها على صدره و تنظر الى جسده مفجوعة.... الأخت اراحت رأسها على كفيها مصدومة ..... و الحبيبة رفعت رأسها الى السماء تشكو حالها ......

 

6- ام تحتضن طفلها

 

ام تحنو على طفلها تجسيدا لحنان و الحب التي تغدقانه الام على ولدها ..... مرة أخرى يركز جواد على الطفولة و أهمية رعايتها و حمايتها و يركز على دور الام في حياة الطفل فتراه يجعلها تحيط به بحركة دائرية كالسياج يذكرنا هذا بنص ادبي بابلي ينقل نص بين حبيبين فيخاطب الحبيب حبيبته قائلا " سأحيط بك كالسياج و اجعلك محمية بي " .... تحمي الام الحياة الجديدة من كل الاخطار .....

 

و يمكن ان نلاحظ ان الطفل بدوره و بكل حماس لف ذراعيه الصغيرتين حول وجه امه فبادلها حضنها دلالة على الاقبال على الحياة و التطلع للمستقبل..... و أيضا فيه رمز من التضحية أي ان الام هي درع ابنها فتضحي بنفسها ليحيا ....

7- سجين الفكر

 

صورة أخرى من صور الوضع آنذاك .... سجناء الفكر او السجناء السياسيين .... في الفترات المتأخرة من العهد الملكي شهد العراق موجة كبيرة من موجات الاغتيال و السجن السياسي (او الفكري) لذلك نرى ان جواد يذكر هذه الحالة في نصبه.

 

نرى سجين مقيد خلف القضبان إلا اننا نستشعر حريته ...كناية عن ان المفكر مهما حوصر و سجن فيزيائيا الا ان الفكر حر و لا يمكن ان يكون له حدود ... نرى السجين السياسي رافعا ذراعيه الى السماء في إشارة الى فكره الحر و الفياض ... الفكر سيستمر بالنمو و التوسع ولو خلف القضبان ... و سيفضي في النهاية الى ثورة يلتف حولها الشعب المتأثر بفكر سجين الرأي يمثل جواد ذلك بشخص أحاط بالسجين السياسي و نظر اليه بترقب كترقب التابع للقائد..... تبلور الفكر هو اخر مراحل النضج قبل اندلاع الثورة....

 

هذا العنصر مع العنصرين التاليين يشكلان وحدة واحدة ذات صورة تكاملية سيتجلى ذلك عندما نتكلم عن باقي الأجزاء ....

8- جندي

 

أندلعت الثورة ..... وها هو الجندي يتبنى ثورة الشعب .... من غيره أكثر اقداما و استعدادا للتضحية في حماية وطنه؟ ... يبرز جواد دور الجيش في ترجمة ثورة الشعب ... التف الجيش حول الشعب فإتحدا فنجحت الثورة ....

 

في قلب النصب رسم جواد جنديا ذو صولة عنيفة و قوة جبارة يستشعرها الناظر و يستشعر استمرارية في الحركة فتوتر عضلات و اجتماع الساقين مع اليدين و البدن تشكل حركة هجومية بقوة جبارة  تلوي قضبان السجون .... في إشارة الى ان الثورة ستفضي الى الحرية ... الى الأعلى منه بزغت شمس الحرية او لربما كانت شمس العدالة .... حيث ان الشمس في العراق القديم هي رمز الاله اوتو السومري (او الاله شمش الاكدي) اله العدل .... و لربما اشهر تمثل لهذه الشمس هو اعلى مسلة حمورابي.

 

الجندي هو اول عنصر صممه جواد في النصب .... وضعه في قلب النصب .... فصار كأنه شق نصفيه و اعطى للجندي دور مركزي في مصير الوطن و الشعب و الثورة ..... لم يمثل جواد قائدا او ضابطا ذور رتبة عالية في النصب بل وضع جنديا ... و يعتبر هذا العنصر اشهر عنصر في نصب الحرية و اكثرها وضوحا و لربما جمالا .....

 

في هذا العنصر بالذات كان اريد من جواد ان يمثل عبدالكريم قاسم سواء في شخصية الجندي او في الشمس التي تعلو رأسه ... لكن جواد رفض و رفض رفعت الجادرجي ....

 

يشكل هذا العنصر مع العنصر السابق و اللاحق وحدة واحدة ستتبين عندما نتكلم عن العنصر القادم ....

9- الحرية

 

ظلم ... اضطراب ... مظاهرات ... فكر ... ثورة ... حرية ..... الحرية هي اهم نتاج الثورات و اهم أهدافها ان لم تطن الهدف الوحيد .... بعد ان تافرت جهود كل الفئات و العناصر الرجل و المرأة و الطفل و المفكر السياسي و التفاف الجيش حولهم .... و اندلاع الثورة بزغت الحرية ....

 

يصور جواد الحرية وفق الرؤيا الرومانية (ولربما الاغريقية) الأكثر شهرة للآلهة لبريتاسو التي تمثل عادة بإمرأة تحمل الشعلة.... يصورها جواد بإمرأة شبه طائرة حيث ان حركة اليدين مع الشعلة تعطي انطباع بإنطلاقة و استمرارية حركية و في حالة من السمو و الإرتقاء....

 

عندما سئُل جواد لماذا لم تصنع لها قدمين ؟؟ قال: " لأني اريدها ان تبقى في السماء .... ان تحلق عاليا "

 

العناصر السابق و الذي يسبقه و هذا هم اشهر ثلاث عناصر في النصب حيث انهن يتوسطن النصب هذا أولا و ثانيا يشكلن مع بعض صورة تكاملية واحدة تبدأ مع المفكر السجين الذي بفكر يرسم الطريق للجماهير و الجندي الذي منح الحرية للشعب بعد ان التف حوله و من ثم انبثقت الحرية .....

10- السلام

 

بعد الثورة و الحرية من المفترض ان يحل السلام ...... يرمز جواد في العنصر التاسع الى السلام و يصوره بأمرأة ذات جدائل على شكل أهلة إنسدلت على جانبي وجهها و قد انفجرت من كل جوابنها اغصان لربما كانت اغصان الزيتون التي ترمز الى السلام .... كما و نرى انها ترفع يديها بطريقة الدعاء و كأنها تطلب الخير او السلام و ترتسم نظرة مطمئنة على ملامح وجهها....... تحط على كتفها حمامة رمز السلام الاول....

11- الخيرات

 

بعد نول الحرية و إحلال السلام ستكفل خيرات البلد النمو و الأزدهار ..... فالارض لم تكن بخيلة يوما و لم يكف النهران يوما مد أبناء الرافدين بكل خير ..... بوراتو (الفرات) و أدكلات (دجلة) قدسهما الرافدينيون كونهما مصدر العطاء و الخير و طوعوهما لخدمتهما .... فارض الرافدين هبتهما .....

 

يصور جواد الرافدين بإمرأتين .... فهما رحم العراق و خصبه و مصدر خيراته .... اصل الأشياء و موجد الحضارة و الحياة سيدتين يحملان الخير كله ... الأولى على اليمين انطلقت من اكتافها اسعاف النخيل ...... النخلة .... الشجرة المقدسة عند الرافدينيين و التي عدوا لها اكثر من 300 فائدة سجلوها على الواحهم المسمارية ...... و في حين تحمل المرأة على اليسار الغلال الوفيرة التي اشتهر بها العراق كما و يصور جواد هذه المرأة حبلى أي انها واعدة الخير ... خصبة ... ملؤها البركة .... وبين دجلة و الفرات نرى صبية تحمل فوق رأسها الخيرات ....

 

نرى ان الاستقرار و الهدوء يغلب على الجزء الثاني من النصب الى يسار الجندي حيث يمثل هذا النصب التطلع الى المستقبل بعد الثورة .....

12- الزراعة

 

بعد الرافدين .... خصوبة الأرض .... العراق بلد زراعي ... على ارضه اكتشفت الزراعة و التي حولت حياة البشرية الى الابد و نقلت الانسان من طور الى طور جديد مغاير تماما كان نقطة الانطلاق للعصر الذي نعيشه اليوم .... لولاه ما كان للإنسان ان يتطور بهذه الصورة....

 

بعد خيرات الأرض يأتي عمل الانسان في تطويع هذه الخيرات لمصلحته ... في العنصر الثاني عشر يصور جواد الزراعة بفلاحين لربما رمزا للاخوة العربية الكردية و ان عمل كليهما عملا واحد لذلك هما يمسكان مسحاة واحدة ... كما ويلاحظ ان احدهما له ملامح آشورية كأنما نحن ننظر الى احدى شخصيات الجداريات الآشورية ....

13- الخصب

 

يستمر جواد بتعداد خيرات وادي الرافدين وهنا يرمز لخصوبة العراق بتمثال ثور ينظر الى الامام ..... الثور رمز الخصب و الفحولة في العراق القديم و الحقيقة ليس في وادي الرافدين وحسب بل في اغلب الحضارات القديمة .... و لربما رمز هنا أيضا الى الثورة الحيوانية كمعنى آخر للخصب ....

 

لكن الحقيقة لا اعلم تفسير رمزية الشخص القابع تحت الثور .... لربما كان فلاحا او راعيا .... الحركة التي يطلفها غير مفهومة و هو يضع على رأسه نوع من غطاء ..... نتمنى ان يكون الجواب لديكم

 

14- الصناعة

 

عوامل الازدهار لا تكتمل الا باليد العاملة و بالصناعة .... بعد الثورة و الحرية.... و بتوفر الخيرات و خصوبة التربة و وفرة المياه تؤهل لتطور الإنتاج الزراعي .... و بتوفر الايدي العاملة و الثورة المعدنية تزدهر الصناعة ..... يرمز جواد في نهاية نصبه الى الصناعة عن طريق عامل مدود الساعدين و يحمل مطرقة كبيرة ..... العمال و سواعد البناء هي التي تبني الوطن ... عامل شامخ متفاءل ....

 

 

 تابعنا قصة نصب الحرية مذ ان كان فكرة حتى انجز و سرنا مع جواد خطوة بخطوة و هو ينجز هذا العمل الضخم الذي حاكى في جداريات آشور و اختام سومر و اكد ..... ترجم جواد الاضطراب الذي سبق الثورة و الظلم و الحيف آنذاك ثم صور و بكل جمالية تحرك الجماهير الى ان وصلت الى ذلك النضج الفكري الذي أهلها في الأخير ان تكسر القضبان و تتحرر و ترفع راية الحرية عاليا لتلتفت بعد كل ذاك الاضطراب و التعب الى خيرات البلد و تغرس سواعدها في الأرض لتستخرج منها ما دفن من كنوز لتصير ذلك الكنز ارضا مزدهرة .... في خاتمة البحث لابد من الإشارة الى ان لورنا سليم (زوجة جواد) تقول ان عبد الكريم قاسم لم يطلب من جواد قط وضع رمز له في النصب لكن كان ذلك من أفعال المغرضين و حاسدي جواد ......

 

 

 

علي طالب 

آب 2014

 

 

مراجع البحث لمن أراد الاستزادة

 

1- لورنا ... سنواتها مع جواد تأليف أنعام كجه جي

2- الاخيضر و القصر البلوري تأليف رفعت الجادرجي

3- نصب الحرية تأليف جبرا إبراهيم جبرا

4- وثائقي قناة الشرقية طبق الأصل (نحات الحرية)

 

 

bottom of page