الأحتلال الآشوري لدولة الفراعنة
علي طالب
مقدمة
كانت آشور مع اقتراب نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد ترسخ سيادتها على بابل في الوقت الذي افلت فيه امبراطوريات المنطقة (كالدولة الحثية) و التي اخذت دولة آشور تسيطر على أراضيها و تنمي نفوذها فيها حتى أصبحت كل الأنظار تصبو نحو نينوى عاصمة الإمبراطورية الآشورية العظيمة....
و بعد مراقبة هذا النفوذ الهائل للامبراطورية الآشورية على حساب امبراطوريات المنطقة ادركت الدولة المصرية خطر هذه القوة و علمت انه لم يبق امام اشور من نقاط القوى إلا دولة الفراعنة و انها بلا شك ستزاحمها مركزيتها و ستسعى للسيطرة و التوسع في مناطق غرب اسيا القريبة من حدود مصر....
و عليه حاولت الدولة المصرية درء هذا الخطر عن طريق مجموعة من الخطوات أولها هو معاهدة سلام بينها وبين الدولة الحثية و التي ابرمها الفرعون رعمسيس الثاني مع الملك الحثي خاتوسيل لتوحيد القوى و ليكونوا جبهة واحدة ضد الدولة الآشورية....
في حين عمد الفرعون (نسي بان) الى أسلوب استرضاء الدولة الآشورية و كسب ودها من خلال ارسال الهدايا و بذل العطايا الى الملك الآشوري نجلاتبلازر الأول كبادرة مودة و سلام ....
لكن ملوك الفراعنة الذين عقبوا الملك (نسي بان) لم يتبعوا أسلوب ارسال الهدايا و العطايا بل سلكوا طريق العداء ..... ماذا فعلوا ؟ و كيف كان الرد الآشوري؟؟
" الصورة تظهر تمثال اله العالم السفلي في الموروث الفرعوني اوزيرس مصنوع من النحاس و الذهب عثر عليه في مدينة آشور و لربما كان احدى عطايا الفراعنة للدولة الآشورية (الصورة تظهر التمثال قبل تنظيفه) و هو محفوظ في المتحف العراقي "
" الصورة اعلاه تظهر احدى اهم القطع التي وصلت لنا من العصر الآشوري ألا وهي المسلة السوداء (نسبة الى المرمر الأسود التي صنعت منه المسلة) تعود المسلة الى الملك شلمنصر الثالث و تذكر إنجازاته و من بينها حملاته العسكرية التي استطاع من خلالها توسيع الإمبراطورية الاشورية و يذكر فيها تفاصيل حروبه و وصفها، شكل المسلة اشبه بالزقورة احتوت على عشرين مشهدا توزعت على اربع اضلاع بواقع خمس مشاهد في كل ضلع تبين هذه المشاهد خضوع المدن و الممالك التي حاربت اشور و هي تغدق العطايا و ترسل الهدايا للامبراطورية الاشورية و تظهر أيضا خضوع ملوك تلك الدول و التي يظهر فيه الملك جيهوة ملك إسرائيل ساجدا بين يدي شلمنصر الثالث و كذلك كل من ملوك ايران و سوريا و ملك منطقة اطلقت عليها المسلة اسم (موسري) و التي يعتقد انها مصر في حين تظهر عطايا من الجمال و الخيول و الفيلة و غيرها من الحيوانات بالإضافة الى مجموعة اخرة من الهدايا، المسلة محفوظة اليوم في المتحف البريطاني"
مع زيادة نفوذ الإمبراطورية الآشورية و اكتساحها لمساحات واسعة من الأراضي حاول بعض الفراعنة تغير طرقهم في درء الخطر عنهم و حماية حدودهم من الآشوريين فعمدوا الى دعم جيوش المملكات المنتشرة بين وادي الرافدين و وادي النيل ضد الآشوريين الذين كانوا يحاولون فرض سيطرتهم على هذه المملكات .... و من اهم المعارك التي وقعت بين الآشوريين و التحالف المدعوم من الفراعنة هي معركة قرقر (نسبة الى تل قرقور الآثاري التي وقعت فيه المعركة) حيث تحالفت ممالك سوريا القديمة و لبنان و إسرائيل و القبائل العربية بدعم من الفراعنة كلهم ضد جيش الملك شلمنصر الثالث....
وقعت المعركة في نهاية الربع الأول للالف الأول قبل الميلاد (بحدود 850 قبل الميلاد) وكانت من اكبر المعارك التي حدثت في المنطقة و كان الملك الآشوري شلمنصر الثالث قد ذكر احداث المعركة بالتفصيل في حولياته (إنجازاته الحربية) و جاءت تفاصيل المعركة كالآتي:
يبدأ الوصف بمغادرة شلمنصر الثالث مدينة نينوى على رأس الجيش الآشوري عابرا نهر دجلة ثم الفرات (و ينوه انه عبر النهرين بسلام) متوجها نحو موقع قرقر و الذي اجتمعت في قوات التحالف، ويذكر ان المدن التي مر بها قبل حماة (في سوريا) أبدت له فروض الطاعة لكن المقاومة بدأت في حماة، و بعد ان قضى على تلك المقاومة وصل الى قرقر حيث تحشد جيش التحالف و الذي تكون من الاعداد الآتية:
ملك دمشق حدادزير (سوريا) يرأس التحالف و قد جاء وحده بجيش مكون من 1200 فارس و 20000 جندي
الملك أرهلوني ملك حماة (سوريا) يرأس 700 فارس و 10000 جندي
الملك أحاب ملك إسرائيل يرأس 10000 جندي
أرسلت مدينة اركنتا (لبنان) 10000 جندي
ارسل ملك العرب جندبو 1000 فارس
أرسلت مدينة ميسورة (جنوب تركيا او لربما مصر) 1000 جندي
أرسلت مدينة قلقيليا (في لبنان) 500 جندي
أرسلت مدينة اوسنطة (في لبنان) 200 جندي
أرسلت مدينة ارواد (في لبنان) 200 جندي
ارسل الملك باسا بن روحوبي ملك عمون (عمان في الأردن) ارسل 100 جندي
أرسلت مدينة شيانو (في لبنان) الرقم مجهول
أي ان العدد الإجمالي لجيش الحلفاء بلغ 2900 فارس و 32000 جندي مزودين بـ 3910 عربة حربية ..... يذكر كل هذه التفاصيل الملك الآشوري شلمنصر الثالث في حولياته و يقول ان الجيش الاشوري قتل 14000 جندي و فارس و آسر مجموعة كبيرة من الجنود ناهيك عن عدد هائل من العربات الحربية و الخيول و الجمال و يورد وصفا للمذابح التي اوقعها في خصومه بأبشع صورة .... يشكك الآثاريون بدقة هذه الأرقام و يرجحون انها من مبالغات الملوك في حروبهم و يذكر انه هذه المعركة لم تكن الأخيرة بين الجيش الاشوري بقيادة شلمنصر الثالث و تحالف ممالك بلاد الشام مدعوما من الفراعنة بل استمرت حملات الملك شلمنصر الثالث على المنطقة حتى فرض سلطة اشور عليها و توسعت الإمبراطورية في زمنه لتبلغ حدودا لم يصل اليها جيوش اشور من قبل حيث وطأت قدماه مناطق ارمينية و جبال زاكروس و قلقيليا و جبال طوروس و كسب ولاء كل دويلات بلاد الشام التي خضعت لسلطانه و فرض عليها الجزية فأخذت تغدق عليه الهدايا....
بعد توسع الإمبراطورية الآشورية في عهد شلمنصر الثالث عادت الدولة المصرية الى ارسال الهدايا و العطايا لملوك آشور لغرض المهادنة .... لكن في آواخر عهد الملك شلمنصر الثالث انقلب عليه احد ابناءه (آشور- دانن - أبلي) و انشق عن طاعته و قاد تمردا ضده و تمردت معه 27 مدينة داخل الإمبراطورية أهمها آشور و نينوى و اربيلو ....وفي تلك الفترة كان الملك شلمنصر الثالث قد شاخ بعد قضاء 35 سنة في الحكم لذا عهد لابنه شمشي ادد مجابهة المتمردين، و استمرت الحرب الاهلية مدة اربع سنوات و مات الملك شلمنصر الثالث في هذه الفترة و اعتلى ابنه شمشي ادد العرش .... لكن في الوقت الذي تمكن فيه شمشي ادد اخماد التمرد الداخلي كانت الامبراطورية قد ضعف لانشقاقها الداخلي فقد استنزفت الحرب الاهلية كل طاقة الإمبراطورية و انتهزت هذه الفرصة ممالك اطراف الإمبراطورية فنقضت عهودها و تركت ولائها للامبراطورية الاشورية و بدأت فيها الثورات فيها ضد السيطرة الاشورية أيضا بتحريض من الفراعنة فتقلصت حدود آشور و خفتت قوتها الخارجية و اتخذت الدفاع وسيلة بدل الهجوم و تولى الحكم مجموعة من الملوك الآشوريين الذين لم يستطيعوا ألا السيطرة على القلاقل الداخلية ....
هل استمر الحال على هذا ؟؟ هل بقت الدولة الآشورية ضعيفة؟؟ و كيف طورت الدولة الفرعونية دعمها للتمردات ضد الدولة الآشورية؟؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما اشرنا فقدت اشور بعض أراضيها و نفوذها الخارجي نتيجة انشقاقاتها الداخلية الى ان تمخضت هذه الانشقاقات الى قتل الملك الاشوري آشور – نيراري الخامس (وهو احد خلفاء شمشي ادد ابن شلمنصر الثالث) حيث تمردت مدينة كالح (نمرود) و أطاحت بالملك و اعتلى العرش ملك جديد اسمه تجلاتبلازر الثالث....
كان اعتلاء تجلاتبلازر الثالث عرش اشور بمثابة عصر جديد حيث أعاد تنظيم الدولة و احكم سيطرته داخليا ثم انطلق بحملاته الخارجية معيدا كل ما قد ضاع من اطراف الإمبراطورية لا بل أضاف لها أراضي أخرى حيث سيطر على مملكة اسرائيل و اجبر حاكمها على دفع الجزية....
و بالسيطرة الآشورية الجديدة عادت المخاوف المصرية حيث اضطربت تجارة مصر، كون الآشوريون يسيطرون على اهم طرق التجارة، و كان قرب حدود نفوذ اشور من مصر تهديدا مرعبا لها، لذلك عادت دولة الفراعنة الى لعب دورها في خلق البلابل و دعم التمردات و الثورات....
عندما جاء الملك شلمنصر الخامس الى الحكم رفض هوشع ملك اسرائيل دفع الجزية و كان ذلك بتأثير من مصر التي وعدت هوشع بتقديم العون له ضد اشور لكنها لم تفي بوعدها فهاجم شلمنصر الخامس السامرة و فرض سيطرته عليها....
لكن حصل تغير ملحوظ في طريقة مساعدة مصر للثورات في سوريا و فلسطين و تطورت الى المشاركة في القتال في عصر الملك الآشوري سرجون الثاني.....
لذلك توغل سرجون هذه المرة ليصل حدود مصر عند مدينة (رفح) و سيطر على السامرة (في مملكة اسرائيل) تماما و أخضعها لحكمه المباشر و أسس هناك قاعدة عسكرية اشورية في وادي العريش على حدود مصر وعندها لم يجد الفرعون المصري إلا ان يعترف بسيطرة اشور على المناطق الحدودية مع مصر و حاول إقامة علاقات سلمية و تجارية مع الآشوريين.
بعد وفاة سرجون الثاني اعتلى ابنه سنحاريب العرش و بدأت القلاقل في بابل هذه المرة و بدعم من عيلام، فانصرف سنحاريب عن الحدود الخارجية ليقضي على ثورة بابل في الوقت الذي استغلت مناطق غرب اشور (سوريا فلسطين و لبنان) الفرصة لتثور و تتملص من السلطة الاشورية و دعمتها مصر من جديد ... توجه سنحاريب لمجابهة هذا التمرد لكن مصر هذه المرة لم تكتفي بوعود الدعم العسكري بل انها فعلا أرسلت جيشا لدعم حلفاءها و هنا تقابل الجيش الاشوري بالجيش المصري و وقعت معركة انتهت بالنصر الاشوري على جيش مصر .....
اغتيل سنحاريب على يد بعض ابناءه لانه اختار ابنه اسرحدون لخلافته (وهو اصغر اخوته) و عادت البلابل الداخلية تنهش في جسد الإمبراطورية الاشورية لكن بحد السيف استطاع اسرحدون السيطرة على عرش ابيه ...
وعادت مصر لتثير ممالك غرب اشور على التمرد مستغلة حرب أبناء سنحاريب مع بعضهم عندها قرر اسرحدون وضع حد لهذه الثورات و التمردات و ذلك عن طريق ضرب المحرك لها و الداعم الأساسي لثوراتها الا وهو دولة الفراعنة
" الصورة اعلاه هي احدى جداريات قصر الملك الآشوري سنحاريب في كالح و تظهر حصاره لمدينة لاخيش التابعة للمكلة إسرائيل و هي محاصرة من قبل الجيش الاشوري، يمكننا ان نرى اقصى اليمين رماة النبال الآشوريين على هيئة ازواج، في كل زوج رامي للنبال و آخر يمسك درعا ضخما يغطي كامل الجسد و امامهما احدى انواع الدياية الآشورية المتحركة على مايبدو على أربعة عجلات (يمكن رؤية اثنين منها فقط كون الصورة جانبية) زودت الدبابة بخطمين كبيرين على هيئة خطم الدباب المعاصر ... تستخدم هذه الخطوم في دك الاسوار كما هو واضح في النقش انها اصابت احد أبراج سور المدينة في حين يمكن ان نلاحظ فوق الدبابة ثلاث من جنود الأعداء وهم معلقون بالخوازيق، انتبه الى شعورهم التي تتدلى امامهم حيث لم يغفل النحات حتى اثر الجاذبية على شعر رأسهم المنحني نحو الاسفل.... تبدو المدينة مرتفعة على تل و تحت التل يوجد جرحى و قتلى في حين يتوسط هذا المشهد جندي اشوري يقطع رأس احد جنود الخصم... اما المدينة فوق التل فيظهر من ابراجا اسوارها أربعة توزع عليها أربعة جنود بواقع جندي على كل برج احد الجنود و هو الثاني على اليمين يبدو اشوريا لإرتداءه خوذة اشبه بالقلنسوة كما يمكن متابعة حركته و كأنه يقتطع رأس جندي من جنود الخصم اسفله .... في حين يبدو الرعب مسيطرا على الجنود الثلاثة الآخرون المتوزعون على الأبراج الأخرى و بالتحديد الثاني على اليسار حيث يضع احدى يديه على رأسه فزعا و الآخران على الأطراف يجمعان بين كفيهما امام صدريهما بحركة اشبه بالتوسل .. اقصى اليسار نشاهد اربع جنود آشوريين إثنين منهم يتسلقان التل و عيونهم نحو الأبراج في حين انشغل الآخران في تسلق سلم يفضي الى قمة الأبراج يحمل كل منهما درعا و رمحا و هما متحمسين في حين يلفت نظرنا جندي ساقط من احد الأبراج و هو لا يزال معلقا بين السماء و الارض و بهذا التصوير الحي نستطيع ان نقول ان المدرسة الانطباعية الفنية لم تنشأ اول مرة في فرنسا نهاية الالف الثاني الميلادي (1870 م ) بل نشأت هناك في آشور قبل فرنسا بثلاثة آلاف عام"
الى مصر ....
بعد أن قضى آسرحدون على كل الثورات القادمة من الغرب (منطقة سوريا و فلسطين و لبنان) في الربع الأول من القرن السابع قبل الميلاد أراد ان يقضي على أي مسبب قد يدفع هذه الممالك و المدن الى التمرد لذلك راح يخطط لمرحلة جديدة تهدف الى السيطرة على مصر و إنهاء تدخلها السافر في شؤون المدن التابعة للآشوريين عن طريق تحريضها المستمر لهم على التمرد ضد السيطرة الآشورية واكنت خطته تقضي بتمهيد الطريق من آشور الى مصر ......
في تلك الفترة (675 قبل الميلاد) حرض فرعون مصر تارقو (طهارقة او طرهاقة) مدينة صور (في لبنان) للتمرد على الآشوريين فكان ذلك التحريض شرارة التحرك نحو مصر حيث تقدمت الجيوش الآشورية و دخلت الحدود المصرية لكن العواصف الرملية حالت دون ان يستمر في تقدمه لذلك أرجأ الهجوم اربع سنوات....
في العام 671 قبل الميلاد انطلقت جيوش آشور هذه المرة لهدف واحد مباشر هو اخضاع مصر للسيطرة الآشورية حيث كانت مصر آخر تهديد كبير لآشور في الغرب....
وقعت المعركة بين الجيشين و انتهت بإنتصار الجيش الآشوري و توغله الى الآراضي المصرية و ضرب الحصار على مدينة منفس و سيطر على منطقة الدلتا فهرب الفرعون طهارقة (لربما الى الجنوب) ...
اقتص الآشوريون من المصريين بشدة كعادتهم في أي بلد يدخلونها عنوة و اعلن آسرحدون نفسه ملكا على مصر العليا و السفلى و اجزاء من اثيوبيا بعد ان سارع امراءها الى الاعتراف بسلطة اسرحدون عليهم بعد هروب طهارقة... عين آسرحدون موظفين آشوريين في مصر لكي يحافظون على المصالح الآشورية في وادي النيل .....
لكن هل استمر هذا الاحتلال طويلاً ؟؟؟
لم يدم الاحتلال اكثر من سنتين ... حيث ما إن عاد آسرحدون الى آشور حتى استغل طهارقة ذلك و اتفق مع بعض الامراء الموالين لآسرحدون ان يتمردوا عليه لقاء ان يقاسمهم طهارقة السلطة بعد النصر و فعلا توحدوا كلهم خلف طهارقة (و لربما كان عنف الآشوريين من الأسباب التي دعت المصريين للتوحد خلف طهارقة) و استطاعوا ان يحرروا منفس و الدلتا ....
ما ان طرق الخبر اسماع آسرحدون حتى تجهز للتوجه بجيشه نحو مصر من جديد في العام 669 قبل الميلاد لكن لم تمهله الحياة طويلا ليصل الى مصر فتوفى في طريقه اليها....
هل كانت هذه هي النهاية ؟؟؟؟ بل ما هي إلا البداية
" الصورة تظهر مسلة النصر لآسرحدون و التي عثر عليها في سوريا و تدون انتصارات الملك آسرحدون على اعداءه حيث يظهر الملك ضخما و هو يحمل كأسا في يده اليمنى (لربما إشارة الى احتفالات النصر او لربما هو طقس إراقة الزيت المقدس امام رموز الآلهة التي تبدو واضحة امام وجه اسرحدون كنوع من العرفان بفضلها) بينما يحمل الصولجان في يده الأخرى (الصولجان يمثل السلطة و الحكم) و في نفس الوقت هو يمسك بيده اليسرى حبلين يتدليان الى الأسفل نحو شخصين مقيدين بالحبال يركعان امام حضرة الملك الآشوري آسرحدون بخضوع و رعب و يرفعان ايديهما إستعطافا لرحمته ....
الشخص الأول الى اليمين (الأكبر حجما) لربما كان بالو حاكم مدينة صور (في لبنان) بينما الشخص الثاني (الأصغر حجما) فهو بلا شك من وادي النيل و لربما كان طهارقة نفسه (او لربما كان ابنه اوشاناهورو لان طهارقة لم يلق القبض عليه على خلاف ابنه الذي امسكه الآشوريون و أخذوه الى آشور) ...لاحظ معي ملامح الوجه افريقية بأمتياز عيون منتفخة و انف كبير مسطح شفتين مملوءتين بإفراط حنك مستطيل و عريض غير مدبب و وجه مربع الشكل مع وجنتين عريضتين مرتفعتين....طهارقة في الأصل من اثيوبيا بالتالي تظهر عليه صفات الافارقة اكثر من غيره و لاحظ أيضا معي غطاء رأسه ..... انه غطار الرأس الفرعوني الذي يغطي قمة الرأس ثم ينسدل على الجانبين و يزين بأفعى عند مقدمة الجبهة تنظر الى المقابل في موضع استعداد للهجوم ....
لم يهمل الفنان الآشوري كل هذه التفاصيل لانه أراد ان يوصل الفكرة بدقة و لانه مجيد جدا لعمله و هنا أيضا يجب ان ننوه الى حقيقة يمكن استنباطها و هي ان نحت الملوك و الشخصيات في آشور لربما كان قريبا جدا من الواقع لانه لو كان نحتا ساذجا يحمل فقط معالم الوجه الرئيسية دون تفاصيل حقيقية لكان نحت الفرعون طهارقة اشبه بشكل الآشوريين .... و لا نلاحظ هذه الحقيقة في مسلة آسرحدون وحسب .... لا بل يمكن تتبعها ايضا في منحوتات آخرى كجداريات الحروب بين الآشوريين و العيلاميين و التي تظهر العيلاميين بأشكالهم تلك التي تظهرها نقوش عيلام نفسها و الفرق بينهم و بين الآشوريين واضح"
راجع النص الكامل لمسلة آسرحدون حصريا على موقع كلكامش السومري من هنا
مات آسرحدون
كانت وفاة آسرحدون و هو في طريقه للهجوم على مصر بعد ان تمرد موظفوه بتحريض من طهارقة و توحدهم خلفه كانت تلك الوفاة فرصة لطهارقة لإعاده حكمه من جديد على مصر، تمكن طهارقة من إعادة ممفس مدينته الملكية و من ثم توجهة قواته نحو الدلتا لإخماد أي مقاومة للآشوريين هناك و الذين انسحبوا بدورهم نحو الشرق (سوريا) أملا في الحصول على مساعدة القوات الآشورية....
بعد وفاة آسرحدون تولى الحكم ابنه آشوربانيبال على الرغم من انه الابن الأصغر (لربما سنتكلم في بحث اخر عن ولايه عهد اسرحدون و لماذا اختاره من بين اخوانه و تمرد اخوه عليه) و كانت أولى مهام آشوربانيبال كملك هو استكمال الحملات الحربية على حدود اشور الخارجية منها حملة على جزيرة كريت و الثانية نحو مصر
ننقل من نص مسماري يعود لآشور بانيبال قوله:
" في حملتي الأولى سرت لمواجهة مكان (لربما عمان) و ميلوخا (لربما كانت قرب مصر) التي هزمها و اخضعها ابي آسرحدون، إلا ان طهارقة نسي قوة الاله آشور و الآلهة العظيمة سادتي، و وثق بقوته الخاصة في زحوه نحو الملوك الذين نصبهم ابي لحكم مصر، حيث صمم طهارقة على قتلهم و نهبهم و تقليل أهمية مصر، و قد انزل الهزيمة بهم، و دخل ممفس التي احتلها ابي و ضمها الى آشور، اتاني الرسول الآشوري الى نينوى و اخبرني بما جرى، عتدها تضرعت الى الآلهة العظيمة، و زحفت بجيوشي نحو مصر و كوش (اثيوبيا "
عندما علم طهارقة بزحف الجيش الآشوري نحو مصر، اعد هو الآخر جيشا لملاقاة القوات الآشورية و إلتقى الجيشان عند مدينة كاربنيتي (شرق الدلتا) و انتصر الجيش الاشوري على الجيش المصري في هذه المعركة.
عندما وصلت انباء الهزيمة الى طهارقة في ممفس هرب مرة أخرى الى طيبة، لكن الجيش الاشوري لم يقف عند الانتصار على الجيش المصري بل استمر زحفه حتى وصل الى معقل طهارقة في طيبة و ضرب عليها الحصار و من ثم دخلتها القوات الآشورية و نكلوا بأهلها و هدموا معابدها و قصورها و تمكن طهارقة من الهرب للمرة الثالثة لكن هذه المرة الى نبتة (النوبة).
و مرة أخرى عين اشوربانيبال مجموعة من الولاة من اهل البلد و من الاشوريين ليديروا شؤون مصر.
هل انتهى الامر؟؟
الصورة توضح خط سير حملة اشوربانيبال على مصر
حملة آشوربانيبال على مصر عام 677 قبل الميلاد اخضاعها مرة أخرى الى النفوذ الآشوري ظهرت بوادر تمرد جديد بعد فترة غير طويلة من جانب الكثير من الامراء و الحكام الذين تم تعينهم من قبل آشوربانيبال نفسه بتحريض من طهارقة و الذي منفك يوعدهم بتقاسم السلطة ما ان يستتب له الامر...
لكن لم يكن آشوربانيبال ليسمح بهذا الامر ان يمر بسهولة فقد اكتشفت الحاميات الآشورية هذه التحركات الغريبة في مصر و علمت بالمؤامرة و أرسلت الرسل الى آشوربانيبال و عندها قال كما ورد في احد النصوص المسمارية:
" اذا كان طهارقة قد جرى طرده من مصر فكيف يتسنى لنا نحن البقاء؟ (هاهم) بعثوا رسلا من الفرسان الى طهارقة ملك النوبة لعقد وثاق عهد من اجل ان يعم السلام (بينهم) و يفهم احدهم الآخر و يقتسمون البلد بينهم كي لا يكون الأجنبي (ويقصد الآشوريين) حاكم علينا"
انتبه آشور بانيبال الى ان المصريين لن يرضوا ان يبقوا طويلا تحت الاحتلال الآشوري و انهم لن يتوقفوا عن تمرداتهم حتى يتخلصوا من حكم الآشوريين عليهم، لكن مع ذلك تحرك بسرعة قبل ان ينفذ المتآمرين تمردهم فارسل الى قواته بمصر ان تعتقلهم كلهم (أي المتآمرين) بتهمة الأخلال بالقسم الذي قطعوه الى آشوربانيبال بأن يخضعوا لسلطة آشور و ان لا يعملوا ضد هذه السلطة ارسل هؤلاء الامراء من المتآمرين مكبلين بالسلاسل الى آشور في حين قتل كل المواطنين المشاركين بالمؤامرة ....
لكن عندما وصل الامراء المصريين المتآمرين الى آشور لم يعنفهم آشوربانيبال بل على العكس عاملهم بالحسنى و اغدق عليهم العطايا لكسب ولائهم و كان احد هؤلاء الامراء يعرف باسم نيخو .... أكرمه آشور بانيبال هو ابنه و اعاده حاكما على مدينة (سايس) في مصر بل و عين ابنه بسماتيك الأول حاكما على مدينة (اثريبس) المصرية.
و بعد القضاء على هذه المؤامرة انتهت حياة طهارقة حيث انه توفى عام 664 قبل الميلاد و قال فيه آشوربانيبال:
" طهارقة في منفاه تلقى المصير الذي نزل عليه من قبل الإله آشور المرعب "
هل انتهت تمردات مصر بموت طهارقة الذي كان بطلها الاول؟؟
الصورة رسم علي طالب تمثل آشوربانيبال مهاجما، نقلا عن احدى المنحوتات التي تعود الى آشوربانيبال
بعد وفاة طهارقة عام 664 قبل الميلاد سارع ابن أخيه (تانوت – آمون) لخلافته و تثبيت مكانه للاستيلاء على الحكومة وكان قد رأى مناما فسره له كتهنته بأنه وعد من الآلهة بالإستيلاء على مصر و اخذ الحكم من الآشوريين...
و فعلا لملم شتات قومه و بدأ بالزحف الى مدينة ممفس (التي لربما كانت مركز حكم الآشوريين في مصر) و تمكن (تانوت – آمون) الدخول الى ممفس و السيطرة عليها و قتل نيخو في هذه الحملة (الحاكم المصري الذي عينه آشوربانيبال حاكما على مدينة سايس المصرية) لكن ابنه بسماتك الأول (ابن نيخو و الذي أيضا عين من قبل آشوربانيبال لحكم احدى المدن المصرية) تمكن من الهرب نحو بلاد آشور .....
وصل الخبر الى آشوربانيبال فقال:
" تندماني (وهو اسم اطلقه الآشوريون على تانوت – آمون ) أعتلى العرش الملكي و قام بتحصين مدينتي (طيبة) حصد قواته استعدادا لخوض المعركة مع قواتي المتمركزة في ممفس، قاد تلك المعركة بنفسه، حاصر المدينة وفيها قواتي و السكان و قطع عليهم خطوط العودة، الرسول الآشوري أتى مسرعا الى نينوى و أخبرني بما جرى "
مرة أخرى ارسل اشوربانيبال الجيش الاشوري الى مصر فدخلها دون صعوبة و قدم امراء الدلتا فروض الطاعة له و توجه نحو ممفس و دخلها و هرب (تانوت – آمون) الى طيبة و تقدم الجيش الاشوري جنوبا حتى وصل مدينة طيبة و هدمها و نهبها وهرب منها (تانوت – آمون) الى النوبة و قال آشور بانيبال في ذلك:
" في حملتي الثانية سرت مباشرة لمواجهة مصر و اثيوبيا (تانوت – آمون) علم بتقدم قواتي و لما دخلت إقليم مصر هجر منفس و هرب الى نيع (طيبة) لينقذ حياته و جاء الملوك و الامراء الذين عينتهم في مصر لمقابلتي و تقبيل قدمي، تتبعت (تانوت – آمون) سريعا الى (طيبة) مركز قوته فزع من معركتي الضارية و ترك طيبة و هرب الى النوبة... تلك مدينة طيبة بيدي هزمتها و دخلتها بمعونة الإله آشور و عشتار، فضة و ذهب، احجار كريمة، كل أملاك قصره ملابس ملونة من الكتان، الخيول العظيمة السكان رجالا و نساء، مسلتين طويلتين مغلفتين بالبرونز موضوعتين على جانبي بوابة معبد المدينة حركتهما من قواعدهما و نقلتهما الى بلاد آشور و بعد أفضل حرب خضتها مع مصر و اثيوبيا عززت قوتي في مصر و بيد مملوءة عدت سالما الى العاصمة الملكية نينوى"
في الصورة يظهر الملك آشوربانيبال كما نحت على جدارية صيد الأسود في قصره في نينوى
لوحة رائعة للفنان أحمد زيد
بعد انتهاء حملة آشوربانيبال الثانية على مصر عام 663 قبل الميلاد استقرت الأوضاع نسبيا فيها و كان نيخو الحاكم المصري الذي عينه آشوربانيبال حاكما على مدينة (سايس) قد توفى بعد عام ليخلفه ابنه بسماتك الأول على حكم سايس .... و كان بسماتك في الأصل حاكما من قبل آشوربانيبال على مدينة (اثريبس) .... و كان آشوربانيبال قد اثنى و اغدق العطاء على الابن و ابيه و حماهما اكثر من مرة عند تمردات طهارقة و ابن أخيه تانوت – آمون .....
تولى بسماتك الأول حكم مدينة يايس و استمر على عهده الذي قطعه مع آشوربانيبال و زادت حظوته عند الآشوريين حتى اصبح الحاكم المفضل للآشوريين في مصر ... وبهذا تفوق بسماتك على باقي الامراء الحاكمين في مصر و بدأت شوكته تقوى على حساب باقي الامراء....
وبعد ثمان سنوات من الولاء لآشور رفع بسماتك الأول راية الاستقلال في دلتا النيل.....
لم يجد بسماتك الأول في سعيه لتحرير مصر بد من ان يستعين بالمرتزقة اليونان الأجانب للضعف و الوهن الذي أصاب القوات المصرية آنذاك و في العام 653 قبل الميلاد انطلقت القوات المصرية بإسناد من المرتزقة اليونان و دعم من الايونيين (وهم اقوام اسيوية خاضعة للمملكة الميدية و هي احدى ممالك شمال غرب ايران) الذين ارسلوا جنودا لنصرة المصريين ضد الآشوريين (مصالح المملكة الميدية تقضي بالوقوف ضد الإمبراطورية الآشورية) و كذلك الكاريين و هم أيضا من الاقوام التي تسكن غرب آسيا و المؤتمرة بأمر الملك كيكز ملك ليديا (احدى ممالك غرب آسيا بالقرب من بحر ايجة) الذي نقض عهده مع الملك آشوربانيبال فساعد الفرعون بسماتك الأول للتخلص من النفوذ الآشوري و قال في ذلك آشور بانيبال:
" ان كيكز قد ارسل جنده لمد المساعدة الى بسماتك ملك مصر الذي نبذ سلطتي "
ان مصالح مصر و ليديا التجارية متشابهة حيث كلا المملكتين تقعان على ساحل البحر المتوسط لذلك تعاون الملكين للخلاص من النفوذ الاشوري على الطرق التجارية.....
و فعلا في العام 653 قبل الميلاد تم اخراج اخر جندي آشوري من مصر لا بل لحقت قوات هذا التحالف بجيش آشور الى مدينة اشدود (في فلسطين) ....
ما كان آشوربانيبال ليسمح بما حصل لكنه كان يتلقى الطعنات من كل جانب حيث انه و في نفس هذه الفترة اشتدت هجمات بلاد عيلام (الى الجبهة الشرقية من آشور منطقة ايران) على مركز الإمبراطورية الآشورية في وادي الرافدين فكان الأولى على آشوربانيبال الألتفات الى التهديد العيلامي الملاصق لمنبع الأمبراطورية الآشورية على الالتهاء بمملكة مصر و التي تبعد 2200 كيلومتر عن موطن الآشوريين مما يجعل السيطرة عليها امرا صعبا، في الوقت الذي خسر الآشوريون معركة الحفاظ على مصر انتصروا على عيلام و قتل ملكها تيومان و احتفل آشوربانيبال شاربا الخمر هو و زوجته آشور – شارات في عريشة حديقته الملكية محاط بالموسيقين و ليس بعيدا عنه رأس تيومان معلقا على احدى الأشجار.
بهذا ينتهي الاحتلال الآشوري على دولة الفراعنة و الذي دام حوالي العقدين من الزمن سيطرت فيه الأمبراطورية الآشورية على اغلب مناطق العالم القديم و تفردت بسلطانها على العالم....
لم تنته الحروب بين وادي الرافدين و وادي النيل فبروز امبراطورية قوية أخرى في وادي الرافدين وهي دولة بابل الأخيرة أدى الى احتكاكات جديدة مع مصر فكانت دولة نبوخذنصر قد شنت الحملات ضد دولة وادي النيل إلا انها لم تكن بنية الأحتلال بل لبسط النفوذ على المدن المحصورة بين هاتين الحضارتين العظيمتين..... لربما سنتكلم عن هذه المواجهات في بحث آخر....
المصادر/
- مقدمة في تأريخ الحضارات القديمة – الجزء الأول – طه باقر
- آشوربانيبال .. سيرته و منجزاته - الدكتور رياض الدوري
- الدور السياسي و الحضاري لمصر الفرعونية – الدكتورة نجوى الجمال
- اسرار بابل – بيلافسكي
- كنوز المتحف العراقي – فرج بصمه جي
- العراق في التأريخ – نخبة من المؤرخين العراقيين
- Ancient records of Assyria and Babylonia – Daniel Luckenbill
علي طالب