تميّز المشهد الإستيطاني في بلاد وادي الرافدين بوجود المدن الكبيرة التي عاشت فيها أعدادٌ كبيرةٌ من الناس والملوك والكهنة وحتى الآلهة أنفسهم. بدءً من أواخر عصر الوركاء وإلى نهاية العصر البابلي القديم (٣٥٠٠-١٥٠٠ ق.م)، إحتوت المدن الرافدينة على جميع المظاهر المادية للحضارة تلك التي فتنت علماء الآثار والمختصين بالكتابات القديمة ، مظاهرٌ مثل: القصور والمعابد ذوات الفن الرفيع والتنظيم الإداري والعمارة الفخمة المميّزة. قدّمت هذه البقايا المادية دليلاً على وجود المؤسسات السياسية والإجتماعية وعلى دورها في الحفاظ على المجتمع الحضري. من ناحيةٍ اخرى، يكشف النطاق المكاني للإستيطان عن المدى التي حافظت فيه هذه المؤسسات وبنجاح على التماسك الإجتماعي بين الجماعات السكانية المتنوعة في المدن. في حالة غياب المؤسسات السياسية والإجتماعية، فأن المستوطنات ستنقسم لامحالة كنتيجةً للخلافات التي لايمكن حلّها الاّ من خلال الفصل المكاني بين الأطراف المتنازعة. إستمرت دورات النمو والإنشطار في المستوطنات منذ بداية الإستقرار في العصر الحجري الحديث الى الألف الرابع قبل الميلاد.
شَهَد السهل الرسوبي تحوّلاً في أنماط الإستيطان الحضري في وقتٍ كانت فيه معظم المجتمعات الأخرى حول العالم مستمرةً بالعيش في نطاق القرية. أن التطور في نمط الإستيطان الحضري لم يكن عمليةً عشوائيةً، وأن التحول في الإستيطان يكشف عن الديناميكيات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والبيئية الكامنة. صارت أنماط الإستيطان هذه أساساً في بناء المجتمع الرافديني. وأصبحت المدن ذوات مغزى بعد أن نمت من خلال الترابط مع الآلهة والملوك والأحداث. توضّح لنا هذه الجوانب الرمزية الثابتة السبب في أن كثيراً من المدن الكبيرة في الألف الرابع والألف الثالث ق.م كانت مأهولةً بالسكان بكثافة ومزدهرةً لعدة آلاف من السنين. لذلك، كان المختصين بالحضارة الرافدينية في الطليعة في تطويرأساليب المسح والتحسس النائي.عندما يقترن التنقيب مع النصوص المدونة تصبح لدينا أدوات قوية تمكّننا من إعادة تصوّرمشهد تطوّرالإستيطان في بلاد وادي الرافدين.
يستعرض هذا المقال أنماط الاستيطان في سومر وأكد من نهاية الألف الرابع إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد. قبل القيام بذلك،
من الضروري النظر في بعض التعاريف، واستعراض نقاط القوة والضعف في المسوحات التي أجريت حتى الآن في السهل الرسوبي
Title. Double click me.
أنماط الأستيطان في سومر و أكد
للاستاذ عبد الامير الحمداني و الاستاذ جيسون اور
تم نشر هذا المقال بترخيص من الأستاذ عبد الأمير الحمداني و هو يخضع لحقوق الملكية الفكرية يمنع استخدام هذا المقال او نشره في اي مكان اخر دون الرجوع إلى الاستاذ عبد الامير الحمداني او على الاقل الإتصال بالموقع لأخذ الاذن من الأستاذ عبد الامير
المشهد البيئي والطبيعي
يرتبط تاريخ الإستيطان في السهل الرافديني (انظر الصورة المرفقة) بشكلٍ وثيقٍ بالبيئة المادية و يتطلّب الإستيطان البشري في ظل مناخ السهل الرسوبي الجاف أن يرتبط عن كثب بمصادر المياه السطحية: النهران يغذيان معظم السهل، والأهوار التي تقع بينهما خاصة في نهايات الأنهر التي تنتهي عند رأس الخليج
. يبدو السهل الرسوبي أرضاً مسطحةً ومتجانسةً غير محددة الجوانب، لكنه في الحقيقة يحوي مجموعةً معقدةً ومتنوعةً من ضفاف الأنهر المرتفعة وجزر عالية ومعزولة وحقول من الكثبان الرملية وقنوات ري متروكة وأهوار موسمية تتَّسع بإستمرار. هذا التنوّع والتغيّر البيئي والطبيعي له أثرٌ ليس فقط على طبيعة تكيّف السكان في الماضي بل على العناصر المادية التي ظلّت باقية ليتمّ الكشف عنها لاحقاً من قبل علماء الآثار.
و في القسم الشمالي الغربي من السهل الرسوبي (أكد)، جرت الأنهار في قنواتٍ متعرّجةٍ كانت عرضةً للتغيّر خلال الفيضانات
. عندما أُسِّسَت المستوطنات في الأصل كانت تقع عادة قريباً من ضفاف الأنهار والقنوات الرئيسة الى درجة أنها تبدو بهيئة خطوط متوازية مع تلك الأنهار. يُخلّف نهرا دجلة والفرات معظم الرواسب العالقة في الجزء الأعلى من السهل الرسوبي الأمر الذي أدى إلى ترسُّب كميات كبيرة من الطمى والغرين طمرت المواقع المبكرة. إلى الجنوب الشرقي، في منطقة سومرالواقعة بين نيبور ورأس الخليج ، يتفرّع من النهرين العديد من الجداول والفروع. يكون الترسّب في هذه المنطقة أقل حدة، ولذلك من الراجح أن العديد من مواقع ماقبل التاريخ (عصري العُبيد وأوروك) تبدو مرئية على السطح في سومرأفضل مما هوعليه الحال في منطقة أكد. تتجمع المستوطنات هنا فوق ضفاف الأنهر، وكان تزايد إتساع الأهوار نتيجة لوجود دلتا مميزة.
كانت هذه المشاهد غاية في الفعالية والديناميكية. النهران نفساهما كانا عرضةً لتغيير مجراهما في أوقات الفيضان. تغيّر مسارات الأنهر يمكن أن يحدث نتيجة للحروب بحيث يحصل أن تُترك مدناً أو مناطق بأكملها من دون نسبة مياه ثابتة لأغراض الري الأمرالذي أدى الى التخلي عن المدن وهجرتها، أو أن يتم إستعادة الأنهر بجهود مضنية. كان تشكـّل الأهوار والسهول يرتبط إرتباطاً وثيقاً بتحولات مجاري الأنهار. كان رأس الخليج في الألفين الخامس والرابع ق.م يمتد ليصل الى حدود أور وأوروك اللتين كانتا محاطتين بالأهوار، وبالتدريج فأن الأهوارهذه إنسحبت بإتجاهٍ جنوبيٍّ شرقيٍّ. هذه الدينامية البيئية يجب أن تؤخذ في نظرالإعتبار حين يتم تقييم وتفسير أنماط المستوطنات.
طرائق ومواضيع مسح المستوطنات
المادة الأساس لتأريخ الإستيطان هي أعداد وأحجام المواقع الأثرية التي يمكن الحصول عليها من خلال تقنيات المسح الأثري. تستند وسائط المسح على فرضيتين أساسيتين. الفرضية الأكثر أهمية هي الأنشطة البشرية الماضية التي تركت أثاراً يمكن تحديدها والتعرف عليها من خلال مشاهدة أسطح المستوطنات. إذا ما إستبعدنا العمليات الطبيعية والثقافية فأن التوزيع السطحي للقطع والملامح الأثرية يـُـفترض أن يكون مرتبطاً بشكل وثيق بالموقع المكاني للأنشطة البشرية القديمة لاسيما الإستيطان الدائم المستقر. علاوة على ذلك، يرتبط مدى التوزيع السطحي للقطع الأثرية بنطاق الإستيطان القديم، وبالضرورة، بسكانها القدماء.
تطورّت منهجيات المسح الميداني، ولكن معظم المسوحات التي أجريت في العراق تشترك بخصائص متشابهة. النهج السائد هو إجراء مسح موسّع يهدف بشكل سريع الى توثيق أكبرعدد ممكن من المواقع فى مساحة جغرافية واسعة.
تمت زيارة المواقع المعروفة (التي تم تحديدها أما من خلال الصور الجوية والخرائط، أو من خلال الأدلاء المحليّن) بواسطة المركبات.
تم تجنّب الأراضي الزراعية بشكل عام، لكن حين تكون هناك ضرورة لإجراء مسوحات فيها كان يتم السير فقط على السداد وضفاف القنوات. سجّل القائمون على المسح البقايا الأثرية الشاخصة، وقاموا بجمع الملتقطات السطحية مع التركيز على حافات المواقع الأثرية. كان يتم تسجيل مواقع التلال الأثرية بإستخدام بوصلة بصرية مع ملاحظة نقاط المسح المعروفة. نفذّت معظم المسوحات بشكل سريع من قبل فرق تضم عالم آثار أو إثنين مع ممثل من السلطة الآثارية العراقية.
هذا المنهج الذي طُبّق تقريبا في جميع المسوحات التي أجريت في النصف الثاني من القرن العشرين (آدمز ١٩٦٥، ١٩٨١؛ آدمز ونيسن ١٩٧٢؛ جيبسون ١٩٧٢؛ رايت ١٩٨١)، فيه نقاط قوة ونقاط ضعف. كانت الميزة الأساسية للمسوحات أنها غطت رقعة جغرافة واسعة، الأمر الذي أسهم في وضع قاعدة بيانات للمستوطنات الرافدينية هي الأكبر في عالم الآثار.
توجد بعض العيوب في هذا النهج الموسع من المسح ، ففي المسح بإستخدام المركبات يمكن رؤية المواقع الكبيرة لكن المواقع الصغيرة لايمكن العثور عليها الاّ من خلال المسح المكثف. كان تقديرأحجام المواقع يجري من خلال معاينة تجمعات اللقى السطحية ومن خلال الصور الجوية ،وكنتيجة لذلك، يتم التغاضي عن التحول في أنماط الإستيطان، وكما أن المواقع الصغيرة المبكرة يتم تجاهلها أيضاً.
جميع المسوحات، بالضرورة، وقعت تحت وطأة سعة إنتشار المواقع والتحري المكثف، كان روبرت آدمز وزملائه على علمٍ بتداعيات وتشعبات قراراتهم المنهجية. على سبيل المثال، كان الغرض من المسح الذي أُجري في ريف الوركاء هو الإستطلاع الأولي الذي كان يمكن ان يُعزّز ويُصحّح لاحقاً من خلال مسوحات منهجية مكثفة (آدمز ١٩٧٢).
للأسف لم يتم إستكمال هذه المسوحات الأولية بمشاريع مسح مكثفة شاملة بسبب عدم منح تصاريح للمسح. مع ذلك فإن العديد من المواقع كانت موضوعاً لتحليل مكثف وممنهج من المسح السطحي ، كانت مسوحات أوروك، مشكان- شابير، كيش، ولجش أكثرها وضوحاً ( فينكباينر ١٩٩١؛ ستون و زيمانسكي ٢٠٠٤، جيبسون ١٩٧٢، كارتر ١٩٨٩-١٩٩٠). في المسوحات الأثرية كانت أسطح المواقع تقسّم الى مربعات أو وحدات طوبغرافية ثم يتم مسحها وتفتيشها بشكل منظم، جُـمعت الملتقطات ولوحظت المعالم المرئية ورُسمت على خرائط ثم تم تحليلها وتفسير معانيها. بعض المواقع تم مسحها بطريقة الوحدات المختارة حيث يتم أخذ عينات من وحدات محددة (على سبيل المثال مسوحات نيبور- جبسون ١٩٩٢، وتل فارة - مارتن ١٩٨٣). في المسوحات التي أُجريت في مشكان- شابير وفي لجش تم تفسير وتحليل وظائف الموقعين إستناداً الى توزيع الأفران وجدران الأبنية والقنوات وبقايا أنشطة التصنيع، كان التركيز يَنصبُّ على التحول في أنماط نمو وإنكماش المستوطنات التي يُستدل عليها من خلال توزيع وإنتشار القطع الأثرية لمختلف العصور التاريخية.
منذ أن بدأت المسوحات في بلاد وادي الرافدين، كان القائمون عليها معنيين ليس فقط بالمواقع الأثرية بل بالمشاهد والمعالم القديمة الواقعة بينها، خصوصاً الأنهار والقنوات والسدود والضفاف الترابية التي جعلت الإستقرار الزراعي أمراً ممكناً. في مسوحات سومر، إستخدم آدمز الصور الجوية وتابع المسارت الواضحة قرب المواقع في تحديد مجاري الأنهار والقنوات. كان المشروع الطموح هو المسح متعدد الأغراض الذي قامت به البعثة البلجيكية-الأمريكية المشتركة في ريف سيبار وتل الدير في أكد القديمة الذي شملت مزيجاً من البحث الطوبغرافي والجغرافيا الأثرية والنصوص المسمارية (هرمان غاشية وترنيه ١٩٩٨، هايڤرت وبتمان ٢٠٠٨). إعتمدت دراسة لقناة قرب تل أبو صلابيخ على عينات التربة الجوفية (ويلكنسون ١٩٩٠). وكانت دراسة كسر الفخار المنتشر في المنطقة التي تحيط بموقع مشكان- شابير من أولى الدراسات المعتبرة في جميع أنحاء الشرق الأدنى (ويلكنسون ٢٠٠٣).
إستفادت المسوحات والابحاث الآثارية من تقنيات التحسس النائي، ولذا فأن معظم الأبحاث عن العراق حاولت تضمين الصور الجوية والإستشعار عن بعد. في المسوحات التي أُجريت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أستخدمت الصورالجوية ولكن بشكل محدود لكنها كانت كافيةً لتحديد المواقع الأثرية وآثار مسارات الأنهرالقديمة (آدمز ١٩٨١). كانت صور القمر لاندسات مفيدةً في التعرف على ضفاف الأنهار المندرسة (آدمز١٩٨١)،مثلما أستخدمت صورالأقمار الصناعية سبوت وكورونا ذوات التأثيرالكبير(ستون ٢٠٠٣، ريتز٢٠٠٤، ݒورنيل ٢٠٠٧). أثبتت صورالأقمار الصناعية عالية الدقة مثل أيكونوس، كويك بيرد و ديجيتال كلوب أنها واعدة في مجال تحيليل البيانات الطوبغرافية ( ريتز و ويلكنسون ٢٠٠٦).
سمحت الأعداد الكبيرة والمتنوعة من النصوص المسمارية بإعادة بناء المشهد الجغرافي القديم، و كان ذلك الهدف الأساس من الأستكشافات المبكرة في العراق (جاكوبسن ١٩٥٤). أن الجمع بين نتائج المسوحات والنصوص المسمارية كان ذا تأثير ملحوظ في أعادة تصوّرأنماط المشهد الريفي في عصر سلالة أورالثالثة (ستينكلر٢٠٠١، ٢٠٠٧). حينما يتم تحليل النصوص المسمارية بشكلٍ مكثّفٍ فإنها تضيف بعداً إنسانياً لأنماط التحول في إستيطان المواقع، على سبيل المثال، حركة أُسرالمعبد من أوروك وكيش الى أريدو وأور- على التوالي- في العصر البابلي القديم (شارݒين ١٩٨٦)، أو أعادة توطين بعض أسرى الحرب الأكديين والحوريين في الجنوب السومري تحت حكم ملوك أور (ستينكلر: قيد الطبع). يمكن للنصوص المسمارية أيضاً أن تُظهر فترات هِجرة وترك المواقع التي تحدث في مرحلة معينة، إذ أن ملامح هجرة المواقع هذه قد لاتكون ملحوظة آثارياً عند إجراء المسح، على سبيل المثال، الهجرة من المستوطنات في وسط وجنوبي سومر في نهاية العصر البابلي القديم ( ستون ١٩٧٧، غاشيه ١٩٨٩).
بالنسبة لتحليل نتائج المسح فأن الفخارالسطحي هو المعيار في تحديد العصور التأريخية. على سبيل المثال، إنتشارُ فخار أوروك على مساحة واسعة في موقع معين يمكن أن يؤشر لإستيطان واسع من الألف الرابع ق.م. تعتمد الفائدة الكبيرة من هذا الأسلوب والنهج على غزارة وجود الفخّارعلى أسطح المواقع الرافدينية ، لكن الإعتماد على الفخار في تحديد العصور التاريخية ينطوي على تحديات جمـّة. ترتبط قدرتنا في تقسيم العصور التاريخية بمعدل تغيّر تقنيات وأساليب إنتاج الفخار، ولكن العديد من أنواع الفخاربقيت مستخدمة لعدة قرون. علاوة على ذلك، فإن القائمين على المسح يعتمدون على الفخار في تحديد تسلسل الطبقات الأثرية المنقبة بشكل جيد. يوجد إنقطاع في التسلسل الطبقي للفخار في بعض المواقع لعصور تاريخية معينة. وتتفاقم هذه المشكلة في العصور التأريخية المتأخرة اللاحقة حين يفضّل علماء المسماريات والمؤرخون إعتماد تعاقب السلالات السياسية التي لاتتصل قطعاً بأنماط إنتاج الفخّار.
من أجل تقييم أنماط الإستيطان، فإن المشهد البيئي يجب أن يؤخذ بنظرالإعتبار إذ أن العديد من العناصر البيئية القديمة قد أزيلت أو تحولـّت (ويلنكسون ٢٠٠٣). يمكن أن تكون عمليات الإزالة هذه لأسباب طبيعية مثل تحوّل مسارات الأنهار، الترسّب الغريني، زياة الملوحة، أوالتعرية التي تسببها الرياح، أو أن تكون لأسباب بشرية كتوسيع قنوات الري.
تأريخ المسوحات الأثرية
نشأت دراسة أنماط الإستيطان في الشرق الأدنى مع جهود علماء الآثار العراقيين فؤاد سفر وطه باقر ومع جهود عالم السومريات ثوركليد جاكوبسن الذي وضع أساليب المسح في حوض نهر ديالى (١٩٣٦-١٩٣٩) ضمن سياق حفريات المعهد الشرقي (إنظر آدمز ١٩٦٥، سفر١٩٥١ ،١٩٦٠)، وفيما بعد في سومر. كان عمل جاكوبسن مبتكراً خاصة في حرصه على دراسة الأنماط المكانية للمستوطنات ومجاري الأنهار، على العكس من الأبحاث الأخرى التي أجريت في ذلك الوقت والتي ركّزت على تحديد مواقع أثرية لغرض التنقيبات (على سبيل المثال مسوحات جورج رو١٩٦٠). بدأت المسوحات المنتظمة بشكل جدي مع عمل روبرت ماكورميك آدامز في أواخرالخمسينيات والستينيات. قام آدمز بتوسيع وتنظيم ملاحظات جاكوبسون في منطقة أكد في عامي ١٩٥٦و١٩٥٧ وفي حوض نهر ديالى في عامي١٩٥٧و ١٩٥٨.
إلتزمت مسوحات مغواير جبسون قرب كيش سنة ١٩٦٦ ومسوحات هنري رايت في منطقة أور- أريدو (جبسون ١٩٧٢، رايت ١٩٨١) بأساليب جاكوبسن وآدمز. قام آدمز وهانس نيسن في السنة التالية بمسح منطقة الوركاء (آدمز ونيسن ١٩٧٢)، بعدها بدأ آدمز سلسلة من مواسم المسح قرب نيبور (آدمز١٩٨١). بعد سنة ١٩٦٩ توقفت الحكومة العراقية عن منح رخص المسح واسع النطاق، وبإستثناء موسم مسح قصيرأجراه آدمز قرب نيبورعام ١٩٧٥، لم تجر أية مسوحات واسعة أخرى من قبل علماء الآثار الأجانب.
ساهمت دائرة الآثار العراقية في أجراء المسوحات منذ فترة مبكرة رغم أنها كانت مسوحات أولية بسيطة لغرض التوثيق وإختيار مواقع للتنقيب كما حصل في مسوحات ناجي الأصيل في رحلته من بغداد الى الناصرية ثم صعوداً الى الحيرة والنجف (الأصيل ١٩٤٥)، أو أن المسوحات قد أجريت لأغراض تتعلق بتوثيق المواقع قبل غمرها بالمياه بسبب مشاريع الري والسداد. على سبيل المثال، المسوحات التي رافقت مشاريع الري الكبرى الحديثة في العراق كمشروع سهل شهروزر على نهر ديالى أسفل سد دربندخان، ومشروع المسيّب الكبير في السهل الواقع بين دجلة والفرات جنوب بغداد، و مشروع منطقة ري النهروان التي تبدأ من سامراء مروراً بنهر ديالى قرب بغداد وتنتهي عند نهر دجلة في الكوت، حيث تمكّنت كوادر هيئة الأثار من مسح وتثبيت المواقع الأثرية وقنوات الري القديمة ورسم خرائط تفصيلية لها بالإضافة الى تحديد فتراتها التأريخية (سفر١٩٦٠، أبو الصوف ١٩٧٠).
تركّزت المسوحات في السبعينيات والثمانينيات على مواقع فردية، موفِّرةً بذلك فحصاً قيـّماً لمشاريع المسح السابقة. أستهدفت المسوحات فارة ونيبور (جيبسون ١٩٩٢، مارتن ١٩٨٣). أُستخدم أسلوب المسح المكثف الشامل في الثمانينيات في مسوحات الوركاء، لجش ، ومشكان- شابير (فينكباينر ١٩٩١، كارتر ١٩٨٩- ١٩٩٠، ستون وزيمانسكي ٢٠٠٤). في سنة ١٩٩٠ بدأت المسوحات الشاملة في مشروع مسح منطقة ري الجزيرة الفراتية (ويلنكسون ١٩٩٠). وضعت حرب الخليج الأولى نهايةً لجميع مشاريع المسح الأجنبية، لكن فريقاً عراقياً برئاسة عبدالأمير الحمداني تمكّن بين أعوام ٢٠٠٣ الى ٢٠١٠ من مسح ١٠٠٠ موقعاً تعود لمختلف عصور الحضارة العراقية في جنوبي وشرقي سومر، لاسيما في المناطق الواقعة شرق مسوحات نيبور،الوركاء وأريدو ( الحمداني ٢٠٠٨). (كان الفريق مؤلفاَ من الأعضاء: السادة علي كاظم غانم، عامرعبدالرزاق عطيّة، أباذر راهي سعدون والمرحوم يحيى غافل علوان، والآنسة وسن عبدالصاحب عيسى، والسيدات وصال نعيم جاسم وأحلام جبّارعلي). (*)
لقد غطت مسوحات أدامز، نيسن، جيبسون، ورايت ما يقرب من خمساً وعشرين كيلومتراً مربعاً من سومر وأكد والمناطق المتاخمة لجنوب وادي الرافدين، مسجلة ما يزيد على ثلاثة آلاف موقعٍ، ثم أضاف اليها الحمداني وفريقه الفاً آخر (لاحظ الصورة المرفقة) ونتيجة لذلك، فأن المسوحات التي أجريت في السهل الرسوبي تمثل واحدةً من معايير المسح الأثري العالمي
الصورة تمثل نتائج المسوحات وكثافة المواقع في سومر وأكد والمناطق المجاورة. الجزء المظلّل يمثّل الأراضي المرتفعة لأكثر من ١٠٠ متر
تطور الاستيطان في سومر واكد ٣١٠٠- ١٥٠٠ قبل الميلاد
من الناحية الآثرية، ظهرت المستوطنات المُميّزة في السهل الرسوبي خلال عصر العبيد. كانت مواقع هذا العصر صغيرة (أقل من ٤ هكتار- الهكتار يساوي أربعة دوانم)، رغم ان أور وأريدو كانتا بحجم ١٠-١٢ هكتار (رايت ١٩٨١). كانت أنماط الإستيطان في منطقة أكد غير مستقرة بسبب الترسبات الثقيلة التي تخلّفها الأنهار، كذلك فإن المواقع في منطقة أوروك كانت متناثرة وربما يرجع ذلك الى الإعتماد على الرعي بدلاً من الزراعة (آدمز ١٩٨١).أكدت أبحاث التحسس النائي مؤخرا وجود بيئة اهوار تحيط بالمواقع الجنوبية المبكرة، من المحتمل أنها تشكلت منذ العصر الجليدي. هذا النموذج من الإستيطان على جزر متناثرة وسط الأهوار يشير الى ان موارد الأهوار من السمك والقصب قد شكـّلت العماد الأساس لإقتصاديات قرى عصر العبيد بالأضافة الى المراكز الحضرية المبكرة من عصر أوروك (ݒورنيل ٢٠٠٣،٢٠٠٧).
جذور التحضـّر والعمران ٤٠٠٠-٣١٠٠ ق.م
تطوّر المشهد الإستيطاني خلال الألفية الرابعة، وحدث التحوّل اللافت في أوروك التي كانت مؤلفةً من قريتين عُبيديتين متجاورتين نمتا حتى وصلتا إلى حدود ٢٥٠ هكتاراً من التركيز الحضري في حوالي ٣١٠٠ ق.م (فينكباينر١٩٩١). ضمّت المدينة الوليدة هياكلاً ضخمةً جديدةً من العمارة بالإضافة الى المحاولات الأولى من الكتابة ماقبل- المسمارية. لم يكن هناك موقعاً آخراً قد نما الى حدود ماوصلت اليه أوروك رغم أن العديد من المدن قد نمت الى مابين ١٠ الى ٥٠هكتاراً. إن المساحات الدقيقة للعديد من مستوطنات الألف الرابع ليست مؤكدة لأنها مدفونة عميقاً تحت مستوطنات العصور اللاحقة. على سبيل المثال، تقدر مساحة نيبور في الألف الرابع - بشكل إعتباطي- بحوالي ٢٥ هكتاراً لكن مستوطنة عصريّ العبيد وأوروك فيها قد رُدمت تحت مستوطنة فرثية واسعة ( جبسون ١٩٩٢). بالإضافة إلى هذه المراكز، شهد وسط السهل الرسوبي توسعاً كبيراً في الإستيطان، تتجاوز ما يمكن توقعه من النمو الطبيعي للسكان (لاحظ الصورة)، مما حدى بآدامز أن يستنتج أن السبب هو أمّا أن تكون المنطقة قد إستقبلت هجرةً بشريةً من المناطق المحيطة بها، أو بسبب توطين الجماعات الرعوية البدوية المحلية، أو كلا السببين (آدمز ١٩٨١).
مايزال التأريخ الدقيق لأول نمو حضري موضوعاً للنقاش. يغطي عصر أوروك ، المعرّف آثارياً، كامل الألفية الرابعة قبل الميلاد تقريباً وهي فترة طويلة من الزمن. إن ما يعرقل محاولات تقسيم عصر أوروك من خلال التسلسل الزمني للفخار هي قلة الحفريات التي يمكن أن تصل إلى مستوطنات الألف الرابع، حتى الحفريات التي أجريت في تلك المستوطنات لم تعتمد الأساليب الحديثة في جمع الفخار أو توظّف المناهج الموثّقة في تحديد التأريخ الدقيق (نيسان ٢٠٠٢).
كان التوزيع الجغرافي لمواقع عصر أوروك أقل خطياً ( لم تكن موزعة بشكل خطّي) كما أصبح عليه الحال في الفترات اللاحقة عندما أُنشأت المواقع بتوازٍ مباشرٍ مع مسارات الأنهار والقنوات (لاحظ الصورة المرفقة). إن تناثُر المستوطنات في الجزء الجنوبي الشرقي من السهل- على وجه الخصوص- وعدم تجمعّها بشكل مسارات خطّية قد يكون ذا صلة بالتركيز على موارد الأهوار في إقتصاد ذلك الوقت، والتي تمثل - الى جانب الزراعة والرعي- "الدعامة الاقتصادية الثالثة" (ݒورنيل: ٢٠٠٧). بدلاً من نموذج "حبـّات المسبحة المُنتظمة في خيط" التي سادت في نمط توزيع المستوطنات الزراعية في العصور اللاحقة، فإن نمط تناثر المستوطنات كان ربما نتيجة للأستيطان فوق المتوفر من الجزر الشاخصة مثل "أظهر السلاحف" في دلتا ذات أنهار وقنوات متشعبة تشبه قدم الطائر. من الشائع وجود هذه الجزر الشاخصة في نهايات شبكات الأنهار التي تنتهي في الأهوار. هذا النمط يعتبر مخالفاً للفهم التقليدي لجذور الحضارة الرافدينية في كونها ذات أصول زراعية - رعوية مع المركزية في إعادة توزيع المحاصيل والمنتجات الزراعية من قبل أُسرالمعابد المتشكلة تواً (ينظر: ݒولوك ١٩٩٩).
ظهرت تجمعات إستيطانية بشكل ملحوظ في الألف الرابع ق.م والتي كانت نادراً ماتُرى بمثل هذا الإنتشار قبل ذلك التاريخ (على سبيل المثال تل براك في شمال وادي الرافدين ، جيسون أور وآخرين ٢٠٠٧). وضعت العديد من التفسيرات لتوضيح ماحدث. من هذه التفسيرات أن تشكيلاتٌ سياسيةٌ جديدةٌ قد ظهرت، خصوصاً الحكومات البيروقراطية التي أدت الى مركزية في صنع القرار (رايت وجونسون ١٩٧٥). ركـّزت التفسيرات الأخرى على الإقتصاد، حيث ترى أن المدن هي نتاج ناشيء عن ممارسات التجارة التنافسية التي جذبت الناس من القرى المجاورة والمناطق البعيدة (إلغاز ٢٠٠٨). بالإضافة الى ذلك، فإن هناك تفسيرات أخرى ترى أن تطور الطبقات الإجتماعية والتسلسل الهرمي كانت بمثابة قوى كامنة وراء هذا النمو، لاسيما مع الحاجة الملحّة لنظام الجزية والضرائب (ݒولوك ١٩٩٩)، و تراجع نظام القرابة والإتجاه لتشكيل الدولة (آدمز ١٩٧٢،١٩٨١). من ناحية أخرى، قد يكون التمدن نتيجة غير مقصودة من التحول الدقيق في التعريف الإجتماعي للأسرة من تعريفها على أنها مجموعة محلية صغيرة إلى تعريفٍ مرنٍ جديد في أنها يمكن أن تشمل الأحياء والمدن والممالك (إيشلون ٢٠٠١). هذا التغيير الاجتماعي أدى الى إنفجار سكاني في بعض الأماكن حين إنتقل القرويون من المناطق الريفية إلى أماكن جديدة لتكوين مجاميع وأسر حضرية ناشئة، خاصة مع تأسيس المعابد بوصفها بيوتاً للآلهة (جيسون أور قيد الطبع)
هجرة الريف والتوسّع في العمران (٣٠٠٠-٢٦٠٠ق.م)
تعَرّفَ علماء الآثار على مرحلةٍ قصيرةٍ في نهاية الألف الرابع تدعى جمدة نصر (آدمز١٩٨١). في النصف الأول من الألف الثالث ق.م ( عصر فجر السلالات الأول) توسعت تجربة التحضرالأولى في أوروك وأصبحت تتكرر في أماكن أخرى في السهل الرسوبي. تخلّى القرويّون بصورة متزايدة عن المستوطنات الريفية لصالح الحياة في المدن. في جميع الإحتمالات، إنضمت اليهم جماعات البدوالرعاة الذين تخلّوا عن ترحالهم وتنقّلهم المستمر. هذه الهجرات من الريف الى المدن ما تزال غير معروفة فيما إذا كانت طوعية أو قسرية. أظهرت أوائل الألفية الثالثة - أكثر من أي وقت آخر في تاريخ بلاد وادي الرافدين- أهمية وقيمة المسح الأثري، إذ أن جميع مانعرفه عن تلك اللحظة الحاسمة بالنسبة لتاريخ التمدن جاء من خلال المسح الأثري ولم يأتْ عن طريق التنقيبات.
كان التوسع العمراني أكثر وضوحاً في أوروك، وكان الفخار يغطّي مساحة ٤٠٠ هكتار داخل وخارج سورالمدينة (فينكباينر١٩٩١)، الذي يبدو أنه قد تم بناؤه في هذا الوقت (نيسن ١٩٧٢). يُقدِّر آدمز أن نيبور(نفّر) وأدب (تل بسمايا) و أومــّا (تل ݘوخا) وزبالام (تل بزيخ) كانت أوسع المستوطنات (آدمز ١٩٨١). وأما شروباك (تل فارة) فقد وصلت ربما الى ٧٠ هكتاراً (مارتن ١٩٨٣)، وكيش (تل الأحيمر) كانت بحدود ٦٠هكتاراً تقريباً (جبسون ١٩٧٢). في معظم هذه المناطق كان النمو الحضري مترافقاً مع الهجرة من الريف خصوصاً حول أوروك ونيبور وأبو صلابيخ. في المنطقة المحيطة بأوروك، على سبيل المثال، ٨١ بالمائة من الإستيطان حصل في مواقع مساحة كل منها أكثر من ١٠ هكتار (آدمز ١٩٨١)، يبدو أن الإستثناء الوحيد كان في ريف أدب حيث تنتشر القرى والبلدات الريفية. إن نمط التغيـّر المتطرف هذا يشير الى بداية نشوء أنظمة سياسية صغيرة (دويلات - المدن). يتحقق الميل للإستيطان في ظل أنظمة سياسية مركزية ومستقرة ليمتد خارج المراكز الحضرية، كما يخرج المزارعون والرعاة إلى الحقول الزراعية والمراعي القريبة في حالة تلاشي التهديد والعنف بين المدن ( آدمز ١٩٨١، ويلكنسون وآخرين ٢٠٠٤).
في هذا الوقت،أخذ نظام الإستيطان النمط الخطّي لأول مرة وهو النمط الذي ساد في جميع المراحل اللاحقة من تاريخ بلاد وادي الرافدين . هذا النمط الخطيّ كان نادراً في الألف الرابع في المنطقة بين أومـّا وأوروك بسبب عدم أستقرار الأنهار والقنوات في مجاري ثابتة أو بسبب وجود بيئة الأهوار أوبسبب كلا الحالتين. في جنوبي سومر، يمكن التعرف على قنوات لثلاثة أنهار رئيسة: قناة شرقية قرب أدب وقناة غربية بين شروباك وأوروك والتي ربما أمتدت شمالاً لتصل الى نيبور، والقناة المركزية الوسطية التي كانت تجري بينهما في منطقة شروباك (آدمز ١٩٨١)
عصر "دويلات مدن" والوحدة السياسية الأولي (٢٦٠٠- ٢١٠٠ قبل الميلاد)
بحلول منتصف الألف الثالث ،لم يكن استخدام الكتابة المسمارية مقصوراً على الأعمال الإدارية بل تعدّ ذلك ليشمل البيانات والإرادات الملكية والتي كانت أحياناً بشكل نـُصُب ومسلاّت ذوات دلالة إلهية أو ملكية. كانت المدن مُتصوّرة على أنها منازل الآلهة حيث بُنيت لهم معابد سُميت بأسمائهم. وأعطت مشاهد الحروب بين المدن والتي صوّرت على تلك النصب والمسلات البداية لظهور مفهوم " دويلات - المدن" والتي هي عبارة عن وحدات وأنظمة سياسية تتمتع بحكم ذاتي قائم حول مدينة رئيسة واحدة. تمّ التعرّف على العديد من الأنظمة السياسية-الحضرية الصغيرة هذه من خلال قوائم الملوك السومرية. تذكرالنصوص المدونة العواصم السياسية في السهل الرسوبي بشكل متسلسل. ظهرت التقسيمات الأصلية للسهل السوبي بالشكل التالي: أكد، وهي منطقة يغلب عليها الناطقون بالأكدية في الشمال الغربي، وسومر،وهي منطقة يغلب فيها الناطقون بالسومرية في الجنوب الشرقي( ستينكلر ١٩٩٣).
كانت المدن الرئيسة في أواخر عصرفجر السلالات كبيرة ومأهولة بالسكان(بوستغيت١٩٩٤). كانت لجش ربما الأكبر بين المدن حيث بلغت مساحة الإستيطان فيها بحدود ٥٠٠ هكتار (كارتر ١٩٨٩-١٩٩٠)، في حين بلغت مساحة منافستها أومـّا حوالي ١٧٥-٢٠٠هكتاراً. كانت معظم المراكز الحضرية صغيرة، ومع ذلك، فأن شروباك كانت بحدود ١٠٠هكتار (مارتن ١٩٨٣). وعلى الرغم من الثروة المميزة لعائلتها الملكية فإن مساحة أور لم تتجاوز٥٠هكتاراً (رايت ١٩٨١).
هناك علاقة عكسية بين النزاع المستمر والأستقرار، لذلك فإن ماندعوه "عصر دويلات-المدن" كان مرحلةً غير مستقرّة لأن نسبةً قليلةً فقط من السكان شعرت بالأمن بما مكــّـنها من الإستقرار في الأرياف خارج أسوار المدن. يمثّل منتصف الألف الثالث قمة التمركز الإستيطاني إذ أن ٨٠ بالمائة تقريباً من سكان سومر كانوا يعيشون في مستوطنات من ٤٠هكتاراً أو أكبر( آدمز١٩٨١).
كثيرا ما يُستخدم مصطلح "دويلة المدينة" للدلالة على وحدة سياسية تتألف من مدينة مركزية، تحيط بها مناطق ريفية قريبة قوامها حقول زراعية ومراعي، وربما عددٌ قليلٌ من القرى التابعة، في كثير من الأحيان تشبه نموذج دويلات المدن اليونانية. تكشف أنماط الإستيطان والوثائق المدونة أن دويلة المدينة كانت واحدةً من العديد من أشكال التنظيم السياسي الممكن. دويلة لجش، على سبيل المثال، ضمت - بالإضافة الى لجش - كلاً من جيرسو ونينا، وكلاهما مدينتان كبيرتان في حد ذاتهما (على الأقل٣٧٠ و ٦٧هكتار،على التوالي إستناداً إلى صور الأقمار الصناعية). تقليدياً، كانت دويلة المدينة كياناً سياسياً مؤلفاً من ثلاث مدن وبعض المستوطنات المرتبطة بهما. كان الكيان السياسي في كيش يتمتع بسيطرة سياسية شملت أنحاء سومرإلى درجة أنها كانت تقوم بتعيّن وتثبيت الحدود بين دويلتي أومــّـا ولجش (كوبر١٩٨٣). إذا ما أُتيحت الفرصة لحكام دويلات المدن فإنهم كانوا يوطّدون حكمهم على المدن المستقلة عنهم. وفي نهاية الألف الثالث، إستمرت على الأقل إثنتان من هذه الأنظمة السياسية ، واحدة في أكد( السلالة الأكدية) وأخرى في أور (سلالة اورالثالثة)، لعدة أجيال.
بحلول نهاية الألف الثالث، إختفت العديد من القرى الصغيرة التي كانت منتشرةً حول المدن الكبرى، وهُجرت حتى بعض المراكز الحضرية الكبيرة. في الوقت نفسه، ظهرت مستوطنات جديدة إمتدت على طول مسارات الأنهار بين أدب وأومـّـا، ربما بالتزامن مع إنخفاض أعداد ومساحات المستوطنات الواقعة على نهر يمتد من نيبور إلى شروباك وصولاً الى أوروك. بدأ مجرى مائي جديد، ربما كان بالأصل قناة، بالجريان من منطقة أومــّـا الى منطقة أوروك. عُرِفَ هذا المجرى المائي لاحقاً بإسم أتورونجال، والذي ستكون له أهمية خاصة في أواخر الألفية الثالثة (ستينكلر٢٠٠١).
يبدو أن مرحلة الكيانات السياسية الصغيرة المستقلة قد إنتهت على يد سرجون، حاكم أكد الذي كان مقرّه في مدينة أكد (بكاف أعجمية) والتي لايعرف موقعها بالضبط. من الصعب تحديد نمط الإستيطان خلال حكم السلالة الأكدية (نيسن١٩٩٣). مع ذلك، فإن أنماط الإستيطان في عصر فجر السلالات قد إستمرت، خصوصاً على طول مجرى نهر دجلة قرب أدب وفي وسط منطقة أكد. يبقى السؤال مطروحاً عن المدى الذي كانت عليه التغييرات في نمط الإستيطان، إذ أن الاختلاف في التسلسل التاريخي للفخارلايسمح بالإجابة عن هذا السؤال بقدر من اليقين.
إبتداءّ من نهاية عصر فجر السلالات وخلال العصر الأكدي ظهرت قناتان رئيستان داخل المناطق التي تم مسحها في السهل الرسوبي. القناة الغربية (الفرات) كانت تجري بدءً من أبي صلابيخ ثم تمرُّ قريباً من نيبور إلى شروباك وأوروك، في حين كانت القناة الشرقية تجري من أدب الى منطقة أومــّـا وزبالام. من المرجح أن القناة الشرقية كانت أحد فروع نهر دجلة ، وهو استنتاج تم إستخلاصه من كلاً من النصوص المسمارية والصور الجوية (ستينكلر٢٠٠١، ستون ٢٠٠٣، ريتز ٢٠١٠). إن النهايات الجنوبية الشرقية لهاتين القناتين تعرضت الى الإختفاء والمحو بفعل الظروف الطبيعية وبفعل مجاري الأنهراللاحقة. إمتداد القناة الشرقية من جرسو الى لجش وصولاً الى نينا مُغَطَّى حالياً بشبكة من قنوات الري التي تأخذ مياهها من المجري الحالي لشط الغراف، أما أمتداد المجرى المحتمل للقناة الغربية في منطقة أور وأريدو فقد قُطِعَ بالمجرى الحالي لنهر الفرات.
سلالة أور الثالثة والكيانات السياسية التي أعقبتها (٢١٠٠-١٨٥٠قبل الميلاد)
إستناداً للنصوص المدوّنة فإن سلالة أور الثالثة – وعصر إيسن- لارسا غيرالمستقر سياسياً الذي أعقبها - قد شهدت إختلافاً سياسياً وإجتماعياً كبيراً. أنشأ ملوك أور معابداً مركزيةً مقرونةً بأنظمة إدارية ملكية، وحاولوا إحياء الهوية السومرية. تميزت المرحلة التي أعقبت سلالة أور الثالثة بوجود كيانات سياسية متنافسة التي عادةً ماكانت تمارس أنشطتها الاقتصادية بشكل مستقل عن المعبد والسلطة الملكية. بالإضافة الى ذلك، فقد ظهرت جماعات عرقية جديدة،على رأسهم الأموريين الذين كان أسلافهم من الرعاة الرحل.
مع ذلك، يبدو أن هذه التغيرات الإجتماعية والسياسية لم يكن لها تأثيرٌ فوريٌّ ومباشرٌ على حياة الحرفيّين مثل صانعي الفخار الذين واصلوا أستخدام تقنيات وأنماط صنع الفخار نفسها حتى بعد حدوث التغيرات السياسية. لهذا، يجب تقديم عصر سلالة أورالثالثة وبداية عصر سلالة إيسن- لارسا على أنهما وحدةً ثقافيةً واحدةً فيما يخص تحليل أنماط الإستيطان. لقد قدمـّت وفرة النصوص المسمارية رؤية مميزة في مجالات الإستيطان، الحدود الإدارية، والنشاط السكاني والتي لايمكن تحديدها جميعاً من خلال المسح الأثري لوحده (ستينكلر ٢٠٠٧، آدمز ٢٠٠٨).
انتقل المركز السياسي إلى مدينة أورالتي ظلّت متواضعة المساحة بحدود٥٠هكتاراً. أُعيد بناء أريدو،المدينة القريبة منها، وظهرت العديد من المدن الصغيرة على القناة التي تمر بجوار أور. تضاعفت المساحة الإجمالية للإستيطان في المنطقة عما كان عليه الحال في الفترة السابقة (رايت ١٩٨١). وشهد وسط السهل السومري أيضا توسعاً في الإستيطان على جميع المستويات، ولكن بصفة خاصة في القرى الصغيرة، التي زاد عددها الى أكثر من ثلاثة مرات قياساً بعددها في الفترة الأكدية (آدمز١٩٨١). إنّ لمن المناسب أن يتم الربط بين النموالمضطرد للمشهد الريفي والإستقرار السياسي النسبي تحت حكم ملوك أور، بالإضافة إلى إعادة التوطين المنظّم لسكان البلاد التي تم فتحها وضمّها. علاوة على ذلك، فمن المرجح تماماً أن المسوحات أخفقت في تقديرحجم المشهد الريفي، يُعرف ذلك عندما يتم مقارنة العدد الكبير من أسماء الأمكنة التي وردت في النصوص المسمارية بالعدد الصغيرالذي تم توثيقه في المسوحات الأثرية (انظر أدناه).
شهدت نهاية الألف الثالث تطويرأول نُظم الري الشاملة. تَركّزت المستوطنات المبكرة في العصور السابقة على طول مجاري الأنهارالكبرى، لكن مستوطنات أواخرالألف الثالث كانت واقعة على الترع الفرعية والجداول التي تأخذ مياهها من الأنهار الرئيسة وتمتد لمسافة ١٥كم (آدمز١٩٨١). يبدو أن المناطق التي تقع شمال وشرق نيبور وشمال أدب كانت تضم مثل هذه الأنظمة والتي كانت تتطلب إستثمار وإهتمام ملكي كبير. أن التطوّر المتأخر لنظم الري يؤشرالى أن ممارسات الري المعقّد واسعة النطاق كانت نتاجاً للتطورالسابق للتنظيم العمراني والإداري وليس العكس (إنظر:آدمز١٩٨١، ٢٠٠٥).
تميزت مملكة أور بإقـتصاد سياسي متكامل ومركزي إتـّسم بحركة هائلة للبضائع بين المقاطعات الرئيسة (ستينكلر١٩٨٧)، وغالباً مايتم ذلك من خلال النقل النهري الى نيبور ودريهم (بوزرش- داجان القديمة). أن الإنحدارالمتدّرج للسهل الرسوبي و تعدد مسارت النقل النهري كان عنصراً حاسماً في "الميّزة الرافدينية" في مجال التطورالحضري منذ الألف الرابع على أقل تقدير (ألغاز ٢٠٠٨). من خلال قراءة متأنية للنصوص المسمارية وإستناداً للتوزيع الجغرافي للمستوطنات التي شملتها المسوحات الآثارية يمكن تقدير حجم التنقل والحركة بين المدن عبر الأنهار والقنوات في ذلك الوقت، على سبيل المثال، نقل الحبوب من أومـّا صعوداً خلال دجلة الى كاساهار ثم عبر قناة عَرَضيّة الى الفرات قرب نيبور وبوزرش- داجان (ستينكلر٢٠٠١).
بالإضافة إلى إعادة رسم الجغرافيا التاريخية، فإن نصوص أومــّا تُظهر مدى تنوّع المستوطنات الريفية (ستينكلر٢٠٠٧).لقد تمّ التعرّف على تسعة عشر موقعاً فقط من خلال مسح منطقة أومــّأ، غير أن النصوص تشير الى وجود خمسة أضعاف هذا العدد. ربما كان قسمٌ من هذه المواقع يحوي أبنية من القصب وبالتالي من غير المحتمل أن تشكّل تلالاً عالية، وقسمٌ آخرمن المواقع قد أزيل بفعل التعرية وحركات الأنهار، أو أنها كانت صغيرة جداً بحيث لايمكن الكشف عنها والتعرف عليها من خلال المسوحات البسيطة غير المكثّفة. لم يكن بعضٌ من الأمكنة سوى بيادر جمع المحاصيل أو مناطق تخزين الحبوب، غير أن بعضاَ من تلك الأمكنة إحتوت على معابد ومزارات ريفية. ومن المرجّح أن مجموعة متنوعة مشابهة من المستوطنات الريفية الصغيرة كانت موجودة في عصورأخرى ، لكن هذه العصور لم يكن فيها مثل هذا الغنى في النصوص المسمارية. كانت بعض هذه المستوطنات قد أُنشأت بناءً على غايات مدروسة من قِبَل السلالة الحاكمة. على سبيل المثال، المستوطنة التي أنشأها شو- سين لأسرى الحرب في شيمانوم قرب نيبور(غلب ١٩٧٣، ستينكلر فيد الطبع). إن إعادة الإستيطان الممنهج لسكان البلاد المفتوحة كان سمةً واضحةً في أنماط الإستيطان وقد وصلت ذروتها تحت حكم ملوك العصرالآشوري الحديث. إن الأثر الديموغرافي في المشهد السومري مايزال قيد البحث.
إنتهت المرحلة التي أعقبت سلالة أور الثالثة ، والتي تميزّت بالصراع بين الكيانات السياسية في السهل الرسوبي، بالتوحيد السياسي تحت حكم حمورابي في بابل. كان هذا التوحيد السياسي قصيرالأمد. فـفي حُكم سمسوإيلونا- خليفة حمورابي- شهد السهل السومري سلسلةً من الأزمات، التي ربما كانت متعلقة بالمياه، أسفرت عن هجرة تدريجية للمدن. لم يكن هذا التغير في نمط الإستيطان ملحوظاً ومرئياً من الناحية الأثرية لكن يمكن إثباته من خلال التحليل المنهجي للنصوص المسمارية. تمكّن علماء الآثار من تمييز عصر فخاري أستمر لمدة قرن من التشظي السياسي كان معظمه تحت هيمنة حكام لارسا ثم سلالة بابل الأولى.
وصلت معرفتنا عن بنية المستوطنات الرافدينية الى ذروتها خلال هذا العصر (ستون٢٠٠٧). تميزّت المدن المأهولة بكثاقة سكانية عالية مثل أور، نيبور، مشكان- شابير و لارسا بوجود الشوارع المنظمة والأزقة والقنوات الداخلية والمرافيء( ستون وزيمانسكي ٢٠٠٤، كيث ٢٠٠٣، هيوت وآخرين ١٩٨٩). بالإضافة إلى المدن الكبرى، كان هناك عدداً من المستوطنات الصغيرة ، والتي تمت دراستها بشكل موسّع، حيث كشفت عن ملامح وسمات مماثلة لما موجود في نظيراتها الأكبر حجماً (ستون ٢٠٠٧).
شهد جنوبي بلاد وادي الرافدين تحوّلات دراماتيكية في الإستيطان، في بعض الحالات حصل التحوّل بإتجاهات متباينة إستناداً لطبيعة للمنطقة . عموماً، كانت المراكز الحضرية أصغر حجماً من سالفتها في الألف الثالث . في الدراسات الآثارية، جرى تجاهل المراكز السياسية الرئيسة الواقعة في شمال غربي السهل بشكل تام تقريباً ، بما في ذلك بابل نفسها، لأنها كانت تقع خارج نطاق المسوحات ، ولأنها مغطاة بطبقة واسعة من الأستيطان المتأخر. إنهارت وإنكمشت المستوطنات في وسط السهل بين نيبور وأوروك، وفقدت المدن ٤٠ بالمائة من مجموع مساحتها المأهولة (آدمز١٩٨١). من ناحية أخرى، إزدهرت المنطقة بين أور وأريدو. فقد نمت أور الى حدود ٦٠ هكتاراً، مثلما نمت مستوطنة الى الغرب منها (تل الدحيلة) حتى وصلت الى ٤٥ هكتاراً. ضمت هذه المنطقة ٥٨ مستوطنةً، بما في ذلك ستة مراكز صغيرة - تنتشر قريباً من تل الدحيلة-ذوات مساحة تصل الى ١٠هكتار. على الرغم من إنعدام السيطرة السياسية المركزية فأن حجم الإستيطان في هذه المنطقة تضاعف عما كان عليه في عصر سلالة أور الثالثة (رايت ١٩٨١). من الجدير ذكره أن توزيع المواقع الأثرية في سهل أريدو قد تحدد من الجهة الجنوبية والغربية بمنخفض واسع عميق (منخفض الصلبيّات) يشكّل النهاية الشمالية لوادي أبو غار(شعيب أبو غار)، ويبدأ على مسافة أمتار من غرب أريدو ويمتد غرباً الى مسافة خمسة كيلومتر داخل بادية السماوة. تنتشرمستوطنات سهل أريدو على جانبي نهر يمتد مرافقاً لحافة المنخفض الشرقية إبتداءً من تلول الدحيلة مروراً بأريدو وإنتهاءً بتل اللحم. أما على الجانب الغربي من المنخفض فتوجد مجموعة من مواقع تجمّع صيادي الطرائد من العصر الحجري الحديث بدلالة وجود أدوات حجرية مصنوعة من حجر الصوّان الذي يتوافر بشكل قليل . تنتشر هذه التجمعات الى جانب عيون مياه عذبة وأودية مطرية، والى القرب منها توجد مستوطنة ينتشر على سطحها آجر مختوم بإسم الملك أمار- سن، الحاكم الثالث لسلالة أور الثالثة (2047-2039 ق.م).
يمكن للنصوص المسمارية من العصر البابلي القديم أن تلقي الضوء على أنماط الإستيطان المتذبذبة تاريخياً. شهد جنوب السهل الرسوبي ثورات وأزمات إقتصادية كانت من المحتمل مرتبطة بتوّفر المياه خلال فترة حكم سمسوأيلونا (ستون ٢٠٠٧). في الأزمة الأولى توقف إنتاج الرقم المسمارية في كلٍّ من أور، لارسا، كوتولا، لجش وأوروك وهي المدن الكبرى في أقصى الجزء الجنوبي الشرقي من السهل. بعد عقدين من الزمن، أدت الأزمة الثانية الى توقف إنتاج النصوص المدوّنة في نيبور وإيسن. خلال الفترة المتبقية من سلالة بابل الأولى ، جاءت النصوص المسمارية فقط من مدن منطقة أكد ، خصوصاً من سيبار و دلبات (ستون ١٩٧٧، جاشة ١٩٨٩). في هذه الحالة يمكن أن يُستدل على أن توقّف إنتاج النصوص يُؤشر لهجرة وحركة السكان في المنطقة. تَصِف النصوص المسمارية حركة الناس والمؤسسات، على سبيل المثال، نقل بيت أور- أوتو من سيبار الى تل الدير (يانسن ١٩٩٦)، أو حركة مؤسسات المعبد بالكامل بين المدن (شاربان ١٩٨٦). لأن هذه الأحداث وقعت في غضون عصر فخاري واحد، فإن النتاج الأثري لهذه الأحداث لم يكن مرئياً للقائمين على المسح الأثري على الرغم من التعرّف على التغيرات الشكلية الطفيفة في فخار الفترة مابين أوائل وأواخر عصر سلالة بابل الأولى ( جاشة وآخرون ١٩٩٨)
إعادة تنظيم وسط السهل الرسوبي في أواخر الألف الثاني ق.م
إستُأنِفَ الإستيطان في أراضي سومرالسابقة في أواخر الألف الثاني تحت السيطرة السياسية للسلالة الكاشيـّة، لكن بطريقةٍ مختلفةٍ أسفرت عن تحول جذري في أنماط الإستيطان، إذ أن نظام المستوطنات ومجاري الأنهار في الألفين الثالث والثاني والتي كانت منتظمة جغرافياً من الشمال الغربي بأتجاه الجنوب الشرقي إستُعيضَ عنها بمنظومة جديدة تجري بإتجاه الغرب. هذا النمط كان واضحاً بالخصوص في المنطقة بين إيسن وأوروك حيث تدفقت قنوات متعددة في الجزء الغربي من السهل الرسوبي. يبدو أن وضع مجاري الأنهار الحيوية في نهاية العصر البابلي القديم قد تبدّل في ترتيب جديد حيث أن قناة الفرات الرئيسة كانت تجري بعيداً الى الغرب متحاشية المرور بمدينة بابل ( كول وجاشة ١٩٩٨). من المرجح أن نهر دجلة قد تحوّل أيضاً، أذ أن المدن القديمة الواقعة على طول مجراه الأسفل قد هُجرت بما فيها أومــّا، وزبالام، باد- تبيرا وكوتالو. في ذلك الوقت، كانت المياه ماتزال تتدفق في مجاري الأنهار القديمة-على سبيل المثال نهر الفرات قريباً من نيبور- لكن بمستوى أقل بالمقارنة مع العصور السابقة، يبدو ذلك من صغر حجم المستوطنات المنتشرة على جانبيه التي تعود للعصر الكاشي. كان الوضع مزرياً الى درجة أن المسؤولين الكاشيين حاولوا جلب مياه دجلة عبر قنوات الى نيبور (بيغز١٩٦٥).
من حيث أنماط الاستيطان، يمكن القول بأن هذا الترتيب الجديد قد أشّرَ نهاية " العالم السومري". كانت المستوطنات التي أُعيد إستيطانها في العصرالكاشي ذوات طابع ريفي مقارنة مع العصور السابقة. زاد عدد المستوطنات في وسط السهل لكنها كانت جميعاً بمستوى قرىً مع عدد قليل من الأماكن الحضرية. كانت المساحة الكلية للإستيطان منخفضة جداً. إتسمت المناطق المحيطة بوسط السهل الرسوبي بنظام مشابه من التقشف في الإستيطان. وهُجرت دويلة- مدينة أشنونـّا بالكامل، وكذلك ريف أور رغم أن المدينة نفسها قد أُعيد إستيطانها تحت الحكم الكاشي.
الإتجاهات العامة للإستيطان
شهت بلاد وادي الرافدين أولى بوادرالنمو الحضري المضطرد على حساب الحياة الريفية. هذه المحاولات تركّزت في المقام الأول في السهل السومري بين نيبور وأوروك وهي المنطقة التي جرى مسحها بشكل أفضل، والى حد أقل في منطقة أور-أريدو وفي سهل ديالى .
من الصعب تقييم الإستيطان في الألف الخامس لأن العديد من المواقع قد دفنت تحت الطمي المتراكم أو تحت إستيطان العصور اللاحقة. عندما أصبحت أنماط الإستيطان فعّالة في الألف الرابع، كان المشهد الإستيطاني يتميز بكثافة السكن في مواقع صغيرة. مع ذلك، ففي نهاية الألف الرابع إنخفض عدد المواقع بإستمرار حتى وصل الى أدني مستوى له في مرحلة دويلات المدن في عصر فجر السلالات في منتصف الألف الثالث. رغمَ أن عدد المواقع قد قلَّ فإن المساحة الكلية للمواقع قد توسعت. يمكن إعتبارمساحة الموقع مؤشراً لعدد السكان لكن ذلك لايخلو من بعض المحاذير (بوستغيت ١٩٩٤). هذا المعيار يوضح أن التحضّر في السهل الرسوبي قد حصل بشكل تدريجي ، كما في حالة هجرة السكان للمواقع الصغيرة وتجمعهم في البلدات والمدن. وفي النطاق المحلي وصل التحضّر ذروته حول أوروك في بداية الألف الثالث حين هيمنت مدينة أوروك بمساحتها البالغة ٤٠٠ هكتاراً على الأرياف المحيطة بها بشكل كامل والتي كانت خالية من الإستيطان (إنظر شكل٤). عموماً، كانت ذروة الإستيطان قد حدثت في أواخرعصر فجر السلالات عندما عاش مايقرب من ٨٠ بالمائة من سكان السهل في مدنٍ من ذوات مساحة ٤٠هكتاراً أو أكثر.
أخذ التحضّر منحىً آخر قريباً من عصر التوحيد الأكدي. بلغ عدد السكان المستقرين ذروته في القرون المتبقية من الألف الثالث، ولكن على نحو متزايد في البلدات والقرى الصغيرة خارج المدن الكبرى. بسبب عدم الدقة في التسلسل الزمني لتصنيف الفخار أثناء عمليات المسح الأثري، فليس من الممكن القول فيما إذا كان النمو الريفي يعزى إلى ظروف سلمية تحت سلالة أور الثالثة أو إلى توطـّن الأموريين الرحـّـل في بداية الألف الثاني قبل الميلاد . واصل الريف نموه تحت حكم ملوك بابل مصحوباً هذه المرة بإنخفاض حاد في مجموع مساحة الإستيطان. وقد زادت أعداد المواقع في أواخر الألف الثاني ولكن التحضر والعمران قد وصل إلى أدنى مستوى. أقام أقل من ثلث الإستيطان في المدن الكبيرة، في حين عاش أكثر من نصف السكان في قرى ذوات مساحة أقل من ١٠هكتار.
يتشابه نمط ومسارالإستيطان في المناطق المحيطة بالسهل مع مسارالإستيطان في وسطه لكن مع بعض الإنحرافات الهامـّة. لم يتّـسم سهل ديالى ولا منطقة أور- أريدو بزيادة في عدد المواقع في الألف الرابع كما تميـّز به السهل بين نيبور وأوروك. أظهرت كلا المنطقتين نمواً مماثلاً في حجم الإستيطان، وبلغ عدد سكان سهل ديالى حده الأقصى في عصر سلالة أور الثالثة وعصر أشنونا الذي أعقبه. من ناحية أخرى، فإن أعداد المواقع وحجم الإستيطان في منطقة أور- أريدو قد بلغ ذروته في وقتٍ لاحقٍ قليلا، ربما في وقت ريم - سين حاكم لارسا وحمورابي حاكم بابل . شهدت كلا المنطقتين انهياراً في الإستيطان في نهاية العصر البابلي القديم، وضمّتا عدداً قليلاً من المستوطنات الصغيرة في أواخر الألف الثاني.
عند النظر إلى أتجاهات الإستيطان طويلة الأمد هذه فمن المهم تقييم طبيعة ماتمثلهُ بيانات ومعطيات أنماط الإستيطان. تُشير إعادة تنظيم الإستيطان بعد إنهيار العصرالبابلي القديم إلى أن ثمة تغييرات سياسية كبيرة مصحوبةً بتحولات إجتماعية وإقتصادية أثرت على السكان بما في ذلك سكان الريف. يجب أخذ الحذرعند تفسير أنماط الإستيطان. أظهرت المسوحات الأثرية أن المراكز الحضرية الكبرى في الألف الأول قبل الميلاد كانت تقع في الجانب الغربي من السهل (برنكمان ١٩٨٤، ريتز ٢٠٠٤). إتجاه الإستيطان هذا قد بدا بالفعل في أواخر الألف الثاني حين تحوّل المجريان الرئيسان لنهري دجلة والفرات بعيداً عن المدن القديمة في وسط السهل. لقد شكّـلت المناطق الغربية من السهل الرسوبي تحدياً كبيراً لأعمال المسح بسبب وجود أنظمة الري الحديثة. إن إجراء مسوحات مكثّـفة في هذه المناطق يمكن أن يُثبت فيما إذا كان التذبذب في الحياة الحضرية في الألف الثاني قد شمل السهل بأكمله ، أو أن ذلك قد حصل فقط في المناطق الوسطى في سومر وأكد التي تلقت الإهتمام والتركيزالأكبر من قِبَـل المنقبين والمسّاحين. علاوة على ذلك، فإن الجزء الشرقي من سومر، بما في ذلك أراضي دويلة لجش لم تشملها المسوحات السابقة بسبب كثافة الري والزراعة فيها. لكن مسحاً جديداً أجري بعد سنة ٢٠٠٣ من قبل فريق يقوده عبدالأمير الحمداني توصل الى فهم لعميات التحضر للفترة مابين الألف الرابع والألف الثاني في دويلة لجش في المنطقة التي تقع شرق شط الغراف الحالي أبتداءً من مدينة أبيشال ( تل المحلقيّات ٥ كم شرق الرفاعي) مروراً بجرسو(تللّو) ولجش(تلول الهباء) إلى نينا ( تل زرغل) شرق الشطرة.
كذلك أجرى الفريق - الذي كان يقوده الحمداني مابين الأعوام 2003-2009 ثم أستكمل العمل بعد 2010 من قِبل علي كاظم - مسحاً لمناطق لم تشملها المسوحات السابقة مضيفاً أكثر من خمسمائة موقعاً جديداً تعود تاريخياً الى مابين منتصف الألف الرابع إلى أواخر الألف الثاني (شكل١٢، شكل١٣). فقد تم مسح المناطق الواقعة شرق وجنوب أومّـا بين المصب العام غرباً الى شط الغرّاف شرقاً نزولاً الى مدينة الناصرية الحالية على نهر الفرات جنوباً، وتبيّن أن المواقع التي تم توثيقها قد إزدهرت منذ منتصف الألف الثالث الى نهاية الألف الثاني ق.م، مثلما جرى مسح المنطقة الواقعة جنوب أريدو بإتجاه البادية الغربية ، إذ تنتشر فيها عدة مواقع تعود الى نهاية العصر الحجري الحديث الأعلى بما فيها أماكن قديمة لصيد الطرائد وأخرى لصنع الأدوات الحجرية تقع قريباً من عيون ماء وأودية مطرية.
لكن الملف للنظر في نتائج مسوحات الفريق هو التمكّن من زيارة مواقع هور الحمـّار شرقي تل اللحم ومتابعة مجرى نهرٍ قديمٍ يعود للألف الثاني ق.م، يبدأ من الجزء الشمالي من منخفض الصليبيات شمال غرب أريدو ثم ينحدر جنوباً إلى تل اللحم ويتجه شرقاً إلى الحافة الجنوبية لهور الحمـّـار وصولاً الى شمال حقول نفط الرميلة الشمالية. إستناداً الى الملتقطات السطحية فإن معظم التلال الواقعة على ضفتي هذا النهر تعود تاريخياً الى نهاية الألف الثالث و بداية ومنتصف الألف الثاني قبل الميلاد. من أهم الملاحظات التي أثبتها المسح أن توزيع المواقع الأثرية في هور الحمـّار فد خضع لتسلسل تاريخي . فمواقع الجزء الغربي من هور الحمـّار المجاور لتل اللحم يغلب عليها إستيطان بداية الألف الثاني قبل الميلاد، خصوصاً سلالة إيسن – لارسا والعصر البابلي القديم، بينما يغلب على مواقع الجزء الأوسط من الهور سمات العصر الكاشي، وأما المواقع التي تليها جغرافياً بإتجاه الشرق فتطغى عليها سمات الألف الأول قبل الميلاد، تحديداً العصر البابلي الحيث، وصولاُ إلى الجزء الشرقي من هور الحمـّار القريب من شط العرب حيث توجد مواقع متأخرة من العصر الفرثي ثم الألف الأول الميلاي حتى العصر الساساني والعصور الإسلامية. أن هذا التسلسل التاريخي للإستيطان ربما يؤشر الى حركة إنحسار وتراجع تدريجي لمسطح مائي ، خليج أو هور قديم، بدءً من تل اللحم في الألف الثاني ق.م ويتراجع شرقاً عبر العصور بإتجاه الساحل الحالي للخليج العربي. بالطبع من دون اجراء إختبار ميكرو- فورمولوجي واختبار كاربون ١٤ للقواقع والأصداف وبقايا النباتات المتوجدة في تربة هور الحمّار السطحية وتحت السطحية ، لايمكن تحديد بداية تشكل الهور.
لقد تمّتْ ملاحظة خلو بعض المناطق التي شملها المسح أعلاه من أية مستوطنات من الألف الرابع الى منتصف الألف الأول قبل الميلاد، لكنها إستوطنت في عصورٍ لاحقةٍ إبتداءً من نهاية الألف الأول قبل الميلاد وصولاً الى العصور الإسلامية. يمكن الإستدلال على أن هذه المناطق لم تكن صالحةً للإستيطان لأنها كانت إما مسطحات مائية أو أهوار. من هذه المناطق، المنطقة الواقعة مباشرةً جنوب بادتبيرا، والمنطقة المحيطة بأومّا الى مسافة 10 كم من جميع الجهات، والمنطقة التي تبدأ شمال وجنوب وشرق خط جرسو- لجش- نينا، والمنطقة التي تبدأ بعد 20 كم شرق أور.
يُظهر تطوّرالإستيطان في السهل الرسوبي جوانباً رائعةً من حيث الدينامية والإستقرار. كانت البيئة المادية الطبيعية بيئةً فعالةً، إذ أن الأنهار كانت تغيّـر مسارتها وضفافها وتتبع مسارات ومجاري جديدة. يُمكن أن يُحدث تغيّرمجاري الأنهار أهواراً في بعض الأماكن، وجفافاّ وتصحّراً في أماكن أخرى مصحوبةً بالتعرية الريحية وتشكّل الكثبان الرملية. ربما كانت هذه الديناميات الطبيعية مسؤولة عن تحوّل وحركة الإستيطان بين القرى والمدن الصغيرة في بواكير التاريخ الرافديني وعن الأنشطة الإجتماعية في إنشطار القرى وهجرتها. من ناحية أخرى، تُظهر المراكز الحضرية الكبرى إستمراراً ملحوظاً. أوروك، على سبيل المثال، ظلت مُستوطنةً أو أُعيد إستيطانها لما يقرب من خمسة آلاف سنة (فينكباينر١٩٩١). وقد إزدهرت مدن أخرى مثل أور، لارسا، ونيبور لآلاف السنين. في كثير من الحالات، يتطلب هذا الإستيطان المستمر أو إعادة الإستيطان جهوداً كبيرة في مواجهة التحوّل والتغيّرفي البيئة المادية.
أُنشأت أومّـا، على سبيل المثال، على ضفة أو بالقرب من قناة دجلة الرئيسة، وبحلول أواخر الألفية الثالثة إستمرهذا المجرى المائي السابق كقناة للنقل النهري تسمح للانتقال من مدينة أومّـا إلى مناطق على دجلة الحالية، وبدءً من تلك النقطة صعوداً إلى المراكز الحضرية الرئيسية الأخرى (ستينكلر٢٠٠١). في أواخر الألف الثاني وفي الألف الأول قبل الميلاد ، طلب المركز الديني القديم في نيبور ضخ دفعات كبيرة من المياه في الترع والجداول من الفرات الغربي وحتى من نهر دجلة. وتحولت قناة الفرات الرئيسة السابقة التي كانت تجري غرب نيبور الى قناة بسيطة عرضةً للجفاف مما تطلّب إعادة حفرها بإستمرار.
من الواضح أن هذه المستوطنات الحضرية وغيرها من المستوطنات قد أصبحت أماكن ذوات مغزى بطرق تتجاوز مفهوم الجغرافية الإقتصادية البسيطة. بالتأكيد، كان للمدن أهمية وظيفية على مر تاريخ بلاد وادي الرافدين، إذ أن جميع النظريات الآثارية المختلفة تؤكّد الأدوارالتي لعبتها المدن بوصفها مراكزاً لصنع القرار الإداري (رايت وجونسون ١٩٧٥) والإنتاج الاقتصادي (إلغاز٢٠٠٨). هذه الجوانب والسمات المكانية- الوظيفية لا يمكن لها أن توضّح بشكل تام الجهود العظيمة التي بذلها الرافدينيّون للحفاظ على هذه المدن والمناطق المحيطة التابعة لها مأهولةً ومسكونةً في ظل التغيرات الجذرية للبيئات المادية. إن جهود الناس هي التي جعلت هذه المراكز الحضرية ذوات مغزى: الأفراد و أسرهم العريقة، بما في ذلك أسلافهم المدفونين تحت أرضيات المنازل. ولعل أبرز ما في ذلك أن الآلهة أنفسهم عاشوا في المدن الرافدينية بالمعنى الحرفي للغاية. لقد جُددت المعابد قرناً بعد قرن من قبل خَـدَمَةْ الآلهة في الأرض: الكهنة والملوك، الذين - ولأوقاتٍ طويلةٍ – عملوا بشكل دقيق على إدامة خلوات المعابد و منصات تقديم القرابين فيها. في بعض الحالات، حافظت المدن على أهميتها ولفتراتٍ طويلةٍ حتى بعد أن طواها النسيان. في القرن التاسع عشر الميلادي مثلاً، كان السكان المحليون القاطنون في الحقول حول نيبور وأوروك لازالوا يعرفون هذه الأمكنة بأسماء نفّـر والوركاء، حتى بعد أن ذهب ذكر إنليل وإينانا من الذاكرة البشرية. لايتعلّق السؤال المهم والحيوي بأسباب استمرارالإستيطان في هذه المدن الكبرى بقدر مايتعلّق بماهية الظروف التي جعلت هذه المدن تتوقف عن أن تكون ذوات مغزى بما يكفي في أن تكون جاذبة للإستيطان.
شكر وتقدير
لم يكن ممكناً تحليل أنماط الإستيطان وعمل الأشكال والخرائط الواردة في المقال لولا البيانات التي وفّرتها لنا وبشكل سخيّ كلٌّ من كاري ريتز (قاعدة بيانات المسوحات الأثرية المنشورة)، وغيرمو إلغاز (النسخ الرقمية لجداول المسح) وجنيفر بورنيل (تقديرات الأهوار القديمة وشطآن الخليج). نود أيضا أن نشكر إيميلي هامر وجيمس أوزبورن للمساعدة البحثية، وموظفي مركز أبحاث(MASS). إستفدنا في كتابة هذا المقال من تعليقات وملاحظات روبرت ماكورميك آدمز، كاري ريتز ، وتوني ويلكنسون. الشكر والتقدير لأعضاء فريق مسح 2003-2010 في ذي قار والأهوار.
عبد الامير الحمداني و جيسون اور