كان الرحالة الاوربيون المستشرقون قد إنتبهوا إلى الخط المسماري لاول مرة في ايران مما دفعهم إلى الإعتقاد انه اخترع هناك و لم يعوا انه في الاصل استعير من وادي الرافدين و استمر الأمر على هذا الحال من الإعتقاد الخاطئ من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر
انطونيو دي جويكا سفير اسبانيا في ايران كان اول من اشار إلى ان نقوش بيرسيبولس في ايران هي نوع من انواع الكتابة في كتابه الذي نشر في لشبونة عام 1611 ميلادية. وقد خلف دي جويكا في مركزه في ايران كارسيا سيلفا و الذي اصدر كتابا عام 1620 قال فيه واصفا نقوش بيرسيبولس بأنها طويلة و مثلثة على شكل هرم و انها تختلف عن اي كتابة موجودة في المنطقة. لكن اول من بدأ يربط قطع الأحجية مع بعض هو بترو ديلافاله
ماذا فعل؟؟
إكتشاف و فك رموز الخط المسماري
علي طالب
بدأ الإهتمام بالخط المسماري في القرن السادس عشر بعد الميلاد، و قبل ان نتكلم في أي شيء علينا ان نعرف كيف بدا ذلك الخط للمهتمين بآثار العالم القديم
لم يكن معلوما ما إن كانت هذه العلامات الغريبة رموزا كتابية أم نوع من الزخارف، و إن كانت كتابة هل تقرأ من اليمين إلى اليسار؟ أم العكس؟ أو ربما من الأعلى إلى الأسفل... هل كانت العلامة الواحدة ترمز إلى حرف؟ أم انها ترمز إلى كلمة؟ و لنا ان نتصور صعوبة تكوين اي فكرة عن الخط المسماري في بداية أكتشافه بمعرفة ان الخط المسماري لم يكن على شكل واحد او بلهجة واحدة بل بأشكال متعددة للعلامة الواحدة تختلف تبعا للعصر الذي دونت به فكيف إذا أستخدم لمدة ثلاث آلاف عام؟ و كيف إذا استخدم ذلك الخط بلغات مختلفة و لهجات مختلفة تبعا للموقع الجغرافي و المدة الزمنية؟
انتشر الخط المسماري في العراق و سوريا و لبنان و الاردن و فلسطين و مصر و البحرين و ايران و تركيا و غيرها
بعد ما تقدم يتيبين للقارئ العزيز الصعوبة التي تكتنف محاولة حل رموز الخط المسماري
فكيف تم لنا ذلك؟
في الفترة المحصورة بين العامين 1616 – 1625 قام ثري إيطالي أسمه بترو ديلا فلة بزيارة مدينة بابل القديمة و اخذ منها آجرة نقش عليها بالمسمارية و من ثم اكمل طريقه إلى بيرسيبولس عاصمة الدولة الإخمينية في إيران و إستنسخ بعض الرموز من نقوش بيرسيبولس و في طريق عودته زار مدينة اور و أيضا أخذ آجرة كتب عليها بالمسماري.
نقل بترو فلة هذه القطع إلى اوربا و إستند إلى حدسه و قال انها كتابات تقرأ من اليسار إلى اليمين على الرغم من انه لم يقدم دليلا على استنتاجه هذا إلا انه كان صحيحا فكانت محاولة بترو فلة و نقله لهذه الكتابات إلى اوربا بداية حل الرموز المسمارية...كما و اضافت ان الخط المسماري وجد في العراق ايضا ولم يقتصر على إيران و هنا تكمن اهمية رحلة بترو فلة، فهي وسعت نطاق البحث.
في تلك الفترة ساهم بعض الفنانين بإستخدام بعض العلامات المسمارية كزخارف بتضعيف مسيرة حل الرموز حيث تقديمها كزخرفة يقوض من عزيمة البعض من حلها، كما ان من كان ينسخ العلامات المسمارية لا يهتم بتسلسل النص بل يجمع علامات من اسطر مختلفة و يربطها ببعض..
ايضا عقبت هذه المرحلة إستنتاجات خطيرة قربت من حسم موضوع في كونها كتابة ام زخرفة،
لوحة للسير توماس هيربرت
بعد ان قدم بيترو ديلا فلة رأيه بشأن الخط المسماري و نقل إلى اوربا ثلاث مصادر للخط المسماري من ثلاث مناطق مختلفة فاتحا الباب لبحث اوسع، صرح السير توماس هربرت السفير البريطاني في ايران 1677 من خلال دراسته للخطوط التي استنسخها من بيرسيبولس قائلاً:
" إن العلامات ذات هيئة غريبة و غير إعتيادية، فهي لا تشبه الحروف و لا تشبه الهيروغليفية، نعم، اننا حتى في هذه المرحلة من محاولة قراءة رموزها لم نستطع التوصل إلى أي حكم قاطع فيما اذا كانت كلمات او علامات، ولو انني اميل على الأكثر إلى الرأي الأول. و انها كلمات او مقاطع مفهومة كما في الكتابات المختصرة او المختزلة التي نمارسها "
تصريح توماس هربرت هذا كان آخر تطور في كشف رموز الخط المسماري في القرن السابع عشر حيث عبر هربرت عن إيمانه الشخصي بكون هذه الرموز ما هي إلا نوع من الكتابة و ليست بزخرفة ما بعدها بدأت الأمور تتوضح بعض الشيء في بدايات القرن الثامن عشر
ما كان اول بوادر التطور
استهل القرن الثامن عشر بخطوة جديدة، إذ تم تبني مصطلح المسمارية، لتسمى تلك اللغة المجهولة بالمسمارية و قد لازم هذا الاسم كل اللغات التي إستخدمت ذلك الخط حتى اليوم، إن مبعث هذه التسمية جاء من شكل رموز الخط المسماري و التي تتألف من خطوط مثلثة يشبه الواحد منها الوتد او الإسفين و المسمار. هذا الشكل للرموز لم يكن الحقيقة مقصودا من الكتاب انذاك و يمكن ملاحظة ذلك في الالواح المسمارية المبكرة و التي لا تحتوي رموزها على شكل المسامير ... و تلك الاشكال كانت عرضية نسبة إلى طبيعة الطين الطري و حركة الكتابة التي تضطر الكاتب إلى امالة القدم يمينا و يسارا و الاكثر من ذلك هو رأس القلم المثلث و اصبح بعد ذلك الشكل المسماري مقصوداً و جزءا من الكتابة فحتى عند تطور ادوات الكتابة كالنحت على المعادن استمر استخدام الشكل المسماري للعلامات الكتابية، كان توماس هايد هو اول من اطلق هذا المصطلح على الخط المسماري و المفارقة انه لم يؤمن بان العلامات المسمارية هي عبارة عن كتابات بل اعتقد انها زخارف.
كنت قد اعددت قلما كالذي كان يستخدم في الكتابة المسمارية يمكن ملاحظته في الصورة اعلاه، يرسم الخط من الرأس المدبب للقلم
نحن نقترب من الحل شيئا فشيئا
قام ملك الدينمارك في العام 1761 بخطوة كبيرة في الإسهام بحل الرموز المسمارية حيث ارسل بعثة علمية إلى العراق و ايران بقيادة عالم الرياضيات الاستاذ كريستن نيبور و لفترة ست سنوات زار خلالها نيبور نينوى و بابل و بيرسيبولس و خلال تواجده هناك في بيرسيبولس تمكن من استنساخ دقيق لنصوص كتبت بثلاث لغات لكنها كلها استخدمت الخط المسماري. لم يتوصل نيبور إلى هذا الأدراك و هو كون النص مكتوب بثلاث لغات بخط واحد بل إعتقد انه كتب بلغة واحدة لكن بثلاث خطوط، لكن له الفضل في التنويه إلى انها ثلاث خطوط مختلفة و سماها النوع الاول و الثاني و الثالث كما و إستطاع ان يحدد أن النوع الاول هو لغة هجائية أي ابجدية في حين لم يحدد نوع لغة النصين الآخرين،
جاء فريدرك مونتر و هو باحث دنماركي ليكمل فكرة نيبور حيث قال ان النوع الاول هجائي في حين الثاني و الثالث مقطعي و مقطعي رمزي على الترتيب و صرح ان كل نوع عبارة عن لغة تختلف عن الاخرى إلى انها تشترك بالخط المسماري و رجح انها تعود إلى السلالة الاخمينية
الان سنتكلم عن اولى الكلمات المترجمة من احدى نصوص بيرسيبولس
اللوحة إلى اليسار تظهر الباحث الدنماركي فريدرك مونتير
نص باللغة البهلوية
قام دوبيرون الباحث القادم من اوربا بزيارة الهند لترجمة كتاب الإفستا المقدس لدى الزردشتية و المدون باللغة الفارسية القديمة و استطاع نشر ترجمة ذلك الكتاب في العام 1771 و بعده جاء عالم اخر يدعى سلفستر دي ساكي ليترجم نصوص بهلوية (و هي لغة فارسية قديمة استخدمت الخط الارامي في العصر الفرثي و العصر الساساني في الفترة المحصورة بين 200 قبل الميلاد إلى 600 بعد الميلاد) و كان النص الذي ترجمه دي ساكي ينص على الآتي:
(س) الملك العظيم، ملك الملوك، ملك (...)، ابن (ص)، الملك العظيم، ملك الملوك
الأقواس هي اسماء الاعلام التي لم يستطع دي ساكي ترجمتها، و كان دي ساكي قد صرح ان هذا النص هو جزء من نصوص بيرسيبولس المكتوبة بالخط المسماري إلا انه كتب بالخط الآرامي
و كان شخص آخر يدعى اولف جيرارد تايشسن قد صرح ان علامة المسمار المائلة في النوع الاول من خطوط بيرسيبولس ليست حرفا او مقطعا بل هي عبارة عن فاصلة بين كلمة و كلمة اخرى
كل ما تقدم اعلاه كان قد مهد الطريق لشاب الماني يدعى جورج كروتفند ليقدم اول ترجمة للنوع الاول من نصوص بيرسي بولس،
كيف قام بذلك
اراهنكم ان سأحل رموزها...
هذا ما قاله الشاب الألماني جورج كروتفند لأصدقاءه ذات ليلة، كروتفند مدرس اللغة الأغريقية في فرانكفورت كان مولعا بحل الالغاز و الكتابات الغامضة و بعد ترقبه لمحاولات فك رموز الخط المسماري و بعد ان توفرت النسخ و بعض الدلائل على امكانية حل رموز تلك اللغة الغامضة قبل التحدي.
الصورة على اليمين هي لأحد نصوص بيرسيبولس و التي تم الإعتماد عليها في حل رموز الخط المسماري، كما هو واضح في الصورة النص واحد و مكتوب بثلاث لغات مختلفة كلها استخدمت الخط المسماري..
الآن دعوكم من كل شيء و تنبهوا معي إلى الآتي أولا أهملوا الجزئين السفليين و ركزوا على النوع الاول الذي يمكن ان نستنبط منه الآتي:
أولا النص يتألف من ستة أسطر
ثانيا بمقارنة النص الاول بالنصين السفليين نلاحظ ان النص الاول اكثرها رموزا وهذا يدل على ان النوع الأول هو لغة هجائية اي ان الكلمات فيها تتألف من احرف أي ان كل علامة مسمارية تمثل حرف ما
ثالثا يمكن ملاحظة تكرر علامة مسمارية بشكل مسمار مائل ثلاث عشرة مرة و قد توصل تاتشن كما قلنا في الحلقة السابقة إلى ان هذه العلامة ماهي إلا فاصلة بين كلمة و اخرى
رابعا بتعداد الكلمات بين الفواصل يمكننا ان نعرف ان النص يحتوي على اربع عشرة كلمة
خامسا لاحظوا معي تواجد علامة فاصلة أقصى اليمين في السطر الأول هذا يدل إلى ان النص يقرأ من اليسار إلى اليمين ذلك لانه من المستحيل ان يبتدأ النص بعلامة فاصلة في نفس الوقت يمكن ان ينتهي السطر بهذه العلامة لذا نهاية السطر في هذا النص تكون على اليمين في حين بدايته تكون على اليسار
سادسا لاحظ معي الكلمة الثانية في السطر الأول و التي تحتها خط احمر، هذه الكلمة تتكرر اربع مرات في النص كله لكن الثالثة منها تلك التي تحتها خط ازرق يضاف إلى الكلمة اربع علامات مسمارية
قام كروتفند بمقارنة هذا النص بالنص الفهلوي الذي قام دي ساكي بترجمته كما تكلمنا في سابقا و التي هي:
(س) الملك العظيم، ملك الملوك، ملك (...)، ابن (ص)، الملك العظيم، ملك الملوك
و كان دي ساكي قد قال بأن هذا النص البهلوي المكتوب بالخط الآرامي هو ذاته النص الفارسي المكتوب بالمسمارية لذلك عندما طبق كروتفند هذه الترجمة على نص بيرسيبولس الاول وجد ان كلمة ملك تنطبق على هذه العلامات الأربعة التي تكلمنا عليها في النقطة السادسة اما الكلمة التي تحتها خط ازرق فهي تعني الملوك .... اي ان العلامات المسمارية الأربعة المضافة هي للجمع أي جمع كلمة ملك
النص البهلوي يحتوي على ثلاث عشر كلمة ... في حين يحتوي النص من بيرسبولس على اربع عشر كلمة مع ذلك قام كروتفند بتطبيق ترجمة النص الفهلوي على النص الاول من كتابات بيرسيبولس و اوجد ترجمة الكلمات المسمارية اما بالنسبة لأسماء الأعلام و التي لم يستطع دي ساكي ترجمتها فقد استند كروتفند على المعلومات الإغريقية التي كان خبيرا بها ليعلم اسماء ملوك الإخمينين فعلم ان داريوس هو ملك إخميني وقد ورد في كتابات اليونانيين و ان والده هو هيستاسبيس
بهذه الإستنتاجات استطاع كروتفند ان يصرح بأنه ترجم نص بيرسي بولس الاول بغض النظر عن بعض الاخطاء التي وقع فيها كروتفند و التي من ضمنها كون الخط في النوع الاول هو هجائي و مقطعي في الوقت ذاته و ترجمته الكاملة هي:
" داريوس، الملك العظيم، ملك الملوك، ملك البلدان، ابن هستاسبيس، الإخميني. الذي بنى هذا القصر "
و بهذا نجح كروتفند بترجمة عشر علامات من اصل اربعة عشر و هنا بدأت الموز المسمارية اولى خطواتها لتنكشف
رأينا في ما مر اعلاه الجهود التكاملية التي ادت إلى ترجمة اربع عشرة كلمة فقط من النوع الاول و هذا العدد من الكلمات قليل جدا لكي يستخدم في ترجمة النصين الآخرين كما و ان اسماء الاعلام في النص التي يمكن ان تستخدم لمعرفة الالفاظ في النصين الآخرين قليلة جدا لذلك احتاج الباحثين إلى نص اطول يحتوي على عدد كبير من العلامات من اجل ان يتمكنوا من ان يقارنوا النصوص الثلاثة ليخرجوا بأكبر عدد ممكن من الكلمات المترجمة معنا و لفظاً. و هذا ما استطاع القيام به الضابط البرطاني المغامر هنري رولنسن ....
ماذا وجد رولنسن؟ و ماذا فعل؟
عرف عن الضابط البريطاني الشاب هنري رولنسن حبه للمغامرة، وكان سحر الشرق آنذاك يأسر قلوب الآوربين المتعطشين للإكتشاف فكان إلى جانب عمله في إيران يجد الوقت للقيام بمغامرات الإكتشاف، و كان مما لفت انتباهه نقش مثير للإهتمام منقوش وسط جبل يدعى بهستون ضمن سلسة جبال زاكروس في محافظة كرمنشاه الايرانية، كان النقش يعلو حوالي 130 متر عن الأرض و هو منقوش على جرف صخري عمودي لا يمكن تسلقه و من الصعوبة ان تنصب منصة خشبية عليه،
ما كان ذلك ليثني رولنسن عن سعيه لنسخ النقوش المحفورة على جبل بهستون، فما كان منه إلا ان تسلق الجبل و ربط نفسه بحبل و تدلى حتى وصل قرب النقش و بدأ ينسخه...
لم تكن البتة بالعملية السهلة خاصة ان النص طويل جدا حيث يتكون من 789 علامة مسمارية بالإضافة إلى انه ايضا يتكون من ثلاث انواع كتابية كلها استخدمت الخط المسماري و مما زاد في صعوبة إستنساخها انها لم تكن في مكان واحد فبعضها يبعد عن بعض امتارا،
السير هنري رولنسن
كان رولنسن يتدلى لبعد 50 متر من قمة الجبل و 130 متر عن الارض، كما و احتاج رولنسن إلى تسع سنوات ليستنسخ فقط نصوص النوع الأول و الثاني من الكتابة و ثلاث سنوات اخرى ليكمل استنساخ نصوص النوع الثالث اي استغرق 12 سنة متدليا ليكمل إستنساخ نقوش بهستون أي تفاني و إخلاص وحب للعمل هذا؟
كان عدد علامات النوع الأول 414 و النوع الثاني 263 و النوع الثالث 112 و هذا كم هائل من العلامات يمكن ان يستفاد منه في حل رموز المسمارية،
و بهذا يكون رولنسن قد قدم خدمة كبيرة للانسانية بان قدم الأساس الذي استند عليه العلماء في حل رموز اللغة المسمارية،
لكن هل تعتقدون ان رولنسن توقف عند هذا الحد؟
أبدا بل إنكب على ترجمة النص و استطاع ان يترجم نصوص النوع الاول بالكامل بإستخدام ذات الطريقة التي اتبعها كروتفند التي تكلمنا عنها في الحلقة الثامنة كما ان النص احتوى على اسماء اعلام كثيرة التي من السهل التعرف على ترجمتها و طريقة لفظها من خلال كتابات المؤرخين الإغريق، كما ان لرولنسن معرفة باللغتين الفستانية و هي اللغة الفارسية القديمة التي استخدمها الزارادشتية و كذلك اللغة السنسكريتية و بالإستعانة بجهود المتقدمين عليه في محاولة الترجمة.
إن أهمية نقوش بهستون بالنسبة للخط المسماري كأهمية حجر رشيد (روزيتا) بالنسبة للخط الهيروغليفي
من حمل الراية بعد رولنسن؟
نقوش بهستون
لوحة للقنصل الفرنسي في الموصل السيد بول اميل بوتا
بعيدا عن إيران و في نفس الفترة التي كان فيها هنري رولنسن الضابط البريطاني يتدلى من جبل بيهستون ينسخ النصوص المسمارية و تحديدا في العام 1842 كان هناك رجل آخر يعمل في الارض التي لها فخر اختراع المسمارية،
بول اميل بوتا القنصل الفرنسي في الموصل كان من رواد التنقيب في العراق، عثر بوتا على الكثير من الالواح الطينية و الحجرية التي نقشت بالخط المسماري في المدن الآشورية كتل قوينجق و تل النبي يونس نينوى القديمة و خورسباد او دور شروكين فاصبحت إكتشافاته محط انظار العلماء المهتمين بالمسمارية و التي كانت عيونهم تصبو نحو ايران،
لاحظ العلماء ان اللغة في النصوص التي عثر عليها بوتا مشابهة إلى حد كبير او لربما هي نفسها اللغة التي كتب بها النوع الثالث من نصوص جبل بهستون.
لذلك علموا ان لغة النوع الثالث لنقوش بهستون اصلها في العراق و لما كان جزء من تأريخ العراق في الفترات الآشورية و البابلة معروفة من قبل العلماء آنذاك استنادا إلى التوراة و ايضا مؤلفات الاغريق اطلقوا على النوع الثالث اللغة الآشورية و احيانا اللغة البابلية لتشابه النقوش التي عثر عليها في آشور و بابل و ذاك يعود إلى ان الكتابات الآشورية و البابلية هي في الأصل لهجتين للغة واحدة هي الآكادية.
في العام 1947 انهى رولنسن نسخ نقوش النوع الثالث وبدأ محاولاته في فك رموزها
الآن انتقل الباحثين لمحاولة فك رموز النوع الثالث من نقوش بهستون المكتوبة باللغة الاكادية البابلية
من وقف إلى جانب رولنسن في حل رموز النوع الثالث؟ و التي اكتشف بمساعدة باول بوتا انها عراقية ...
سنعرف من اهم المساهمين في حل رموز النص الثالث و ما هي المصاعب التي واجهتهم....
انكب هنري رولنسن على محاولة فك رموز النص الثالث لنقوش بهستون و انضم اليه في هذه المحاولة الأب الإيرلندي ادورد هنكز،
أولا يتضمن النص البابلي من نقوش بهستون عدد صغير من العلامات مقارنة بالنص الفارسي الاول و هذا يثبت ان اللغة مقطعية، و اللغة المقطعية هي اللغة التي تعتمد على المقاطع الصوتية في تكوين الكلمات بدلا من الحروف اي في اللغة الهجائية العلامة الواحدة تمثل صوتا معينا مثلاً في العربية كلمة ملك تتكون من ثلاث حروف كما هو واضح م + ل + ك لان اللغة العربية هجائية اي ان كل علامة تمثل صوت واحد و حرف واحد غير ذو معنى بمفرده، اما اللغة المقطعية تستخدم المقاطع الصوتية اي ان العلامة الواحدة قد تحتوي على صوتين مثلا كلمة لوكال تتكون من مقطعين صوتيين هما لو + كال أي ان العلامة المسمارية الواحدة تمثل صوت ما و احيانا العلامة بحد ذاتها تمثل كلمة ما مثلا لو = رجل و كال = عظيم و المقطعين الصوتيين يرسمان بعلامتين مسماريتين و بجمعهما تصبح كلمة جديدة لوكال و التي تعني الملك و ليس رجل عظيم
كما اشرنا سابقا نقوش بيهستون احتوت على قائمة ضخمة من اسماء الاعلام لملوك الاخمينين و اعدائهم و التي كانت معروفة من قبل العلماء عن طريق مؤلفات الاغريق و غيرها في نفس الوقت كانت ترجمة النص الاول (الفارسي) التي قام بها رولنسن متوفرة لدى العلماء
اللوحة للأب ايدوارد هنكز
كما اشرنا سابقا نقوش بيهستون احتوت على قائمة ضخمة من اسماء الاعلام لملوك الاخمينين و اعدائهم و التي كانت معروفة من قبل العلماء عن طريق مؤلفات الاغريق و غيرها في نفس الوقت كانت ترجمة النص الاول (الفارسي) التي قام بها رولنسن متوفرة لدى العلماء
بما ان اسماء الاعلام هي ثابتة من لغة إلى أخرى مع اختلاف ليس بالكبير أستطاع رولنسن و هنكز بمقارنة النص الفارسي بالبابلي إستخراج او قراءة اصوات حوالي 246 علامة مسمارية بابلية،
و بمقارنة علامات النصوص التي عثر عليها القنصل الفرنسي بوتا في العراق عرف ان عدد اصوات اللهجة البابلية اكثر من 600 علامة بالالي نستطيع ان نقول ان رولنسن تمكن من قراءة نصف علامات النص البابلي...
كما استطاع هنكز قي العام 1850 قراءة اول كلمة من غير اسماء الاعلام و معرفة معناها و هي آناكو و التي تعني أنا .
الآن هم تمكنوا من قراءة النص عن طريق اسماء الاعلام ولكن ماذا بالنسبة للمعاني؟ المعاني كانت معروفة من النص الفارسي لذلك بمقارنة مواضع الكلمات في النصين من اسماء الاعلام في النصين تمكنوا من معرفة المعنى الكلي للكلمات في العام 1851 نشر السير هنري رولنسن الترجمة الكاملة للتص البابلي لنقوش بهستون،
و بهذا اعلن رولنسن ان اللغة النوع الثالث (البابلية) تم فك رموزها ....
مع ذلك هذا لا يبدو كافيا ... فمهما كان حجم نص بهستون طويلا فهو غير كاف لحصر كل الكلمات البابلية اذا لابد من ان الجهود استمرت و الاساليب تجددت في حل هذه الرموز ... في الحلقة القادمة سنتكلم عن الطرق و الاساليب التي استخدمت من قبل العلماء لإتمام حل رموز اللغة الاكدية...
كما رأينا توصل رولنسن و هيكنز إلى ترجمة لغة النوع الثالث من كتابات بهستون و هي اللغة البابلية، لكن مع ذلك لم تحتوي نصوص بهستون على كل كلمات اللغة البابلية و اصواتها إذا ما الأساليب الأخرى التي استخدمت من اجل الحل الكامل للغة البابلية؟
اللغة البابلية هي من اللغات التي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية و هذا الإنتماء يشير إلى صلة بينها و بين اللغات السامية الحية كالعربية و العبرية و غيرها و هذه الصلة التي ادركها رولنسن ساعدته في قراءة و ترجمة بعض الاصوات فعلى سبيل المثال الكلمة كلبو بالأكدية تعني كلب بالعربية و كيليب بالعبرية و توجد العديد من الكلمات المشتركة و التي استطاع طه باقر ان يألف كتابا كاملا لتعداد بعض الكلمات المشتركة بين العربية بصورة عامة و اللهجة العراقية بصورة خاصة و الكلمات الاكدية و لم يحصرها في الكتاب بل ذكر بعضها.
و في الوقت الذي انصرف فيه رولنسن بترجمة نصوص بهستون كان العمل مستمر في العراق و تم العثور على الكثير من الالواح الطينية في شمال العراق من قبل القنصل الفرنسي بوتا و الذي قدم في العام 1848 دراسة مفصلة عن الرموز المسمارية الرمزية التي ساعدت الكثير في حل رموز المسمارية البابلية كما و استطاع عالم آخر اسمه فوكس تالبوت و الذي درس منشورات و نتائج رولنسن و هنكز و قام بأبحاثه الخاصة و استطاع ان يقدم ترجمته الخاصة لبعض النصوص المسمارية
تالبوت لم يكن آثاريا بل كان عالم رياضيات و مصور فوتغرافية استطاع ان يساهم بوضع اسس التصوير الفوتوغرافي الحديث، هو مستشرق برطاني اثاري هاوي لكنه كما قلنا قدم ترجمة لبعض النصوص الآشورية و وسط الشكوك التي حامت حول ما ان تمكن فعلا العلماء من فك رموز المسمارية استطاع تالوت ان يقطع الشك باليقين بتجربة مشهورة جدا
ما كانت التجربة التي قام بها تالبوت؟
العالم البريطاني فوكس تالبوت
كما رأينا في الحلقة السابقة البريطاني فوكس تالبوت قام بترجمة بعض النصوص المسمارية الآشورية و كان من هذه النصوص نص يعود للمك الآشوري تجلاتبلازر
لم ينشر تابلوت ترجمته بل ارسل بالترجمة مقفولة بختم إلى الجمعية الملكية الآسيوية في لندن مع رسالة يقترح فيها أن توجه الجمعية الدعوة إلى كل من هنكس و رولنسن ليقوم كل منهما على حدة بإعداد ترجمة للنص نفسه.
كانت فكرة تالبوت تهدف إلى مقارنة الترجمات فيما بينها فإن كانت متقاربة فهذا يعني انهم فعلا نجحوا في حل رموز الخط المسماري و إن كانت مختلفة فهذا يعني ان عليهم يستمروا في جهودهم لحله.
وافقت الجمعية على هذا المقترح بل و أضافت لرولنسن و هنكس عالم آخر هو اوبرت، قبل الكل الدعوة و قام كل منهم بترجمة نفس النص على حدة
بعد ان انتهى الكل من الترجمة ارسلت النتائج بظروف مغلقة للجمعية و عقدت جلسة خاصة لعرض النتائج امام الاعضاء فكانت الترجمات الأربع متطابقة مع بعض الاختلافات الطفيفة وكان هذا اثبات صحة حل الرموز و أعلن عن ميلاد علم جديد هو علم الكتابات المسمارية او ما اصطلح عليه بعلم الآشوريات
الصورة توضح النص الذي تم ترجمته خلال هذه التجربة_________________
في العام 1850 و عندما كان كل المستشرقين مشغولين في فك رموز بهستون كذلك كان هنكز لكن في نفس الوقت كان يشغل فكره شيء آخر فقد كانت الشكوك تساوره في وجود لغة آخرى لا تمت لكل اللغات السابقة سوى بإستخدام الخط نفسه مستدلا إلى ان اللغة البابلية على الرغم من انها تنتمي لعائلة اللغات السامية إلا انها غريبة بعض الشيء عن بقية اللغات السامية و اورد مثال على شكه في أن الخط المسماري المستخدم في تدوين البابلية في انه يستخدم بعض المقاطع الصوتية التي تحتوي على حرف صحيح و حرف علة و المعروف ان اللغات السامية تستخدم الحركات لتحديد نطق الكلمة و لا تستخدم حروف العلة.
بمرور الوقت تم الكشف عن الكثير من الالواح المسمارية في العراق و بقى شك هكنز غير مثبت حتى العام 1852 حين اعلن رولنسن ان من خلال دراسة معاجم مسمارية ثنائية اللغة وجدت في تل قوينجق ان العلامات المقابلة للعلامات البابلية في هذه المعاجم تمثل كلمات مرادفة لها بلغة أخرى غير سامية
احد المعاجم ثنائية اللغة
ماذا حدث بعد ذلك؟ ما اكنت تلك اللغة الغريبة؟
بدأت اعمال التنقيب في جنوب العراق في منتصف القرن التاسع عشر و فعلا تم العثور على الكثير من الالواح المسمارية المكتوبة باللغة الجديدة الغير معروفة و التي اطلق عليها خطئا اسم اللغة الأكدية..
في العام 1869 قال يوليوس اوبرت ان بعض النصوص التي عثر عليها في بابل تصف الملك بملك سومر و أكد و بما ان العلاقة بين الاكدية و الآشورية البابلية معروفة فمن الانسب إطلاق السومرية على اسم اللغة الجديدة و اسم السومريون على متكلميها و هذا ما حصل فعلا.
لم يمر الامر بهذه السهولة فقد رفض الكثير من العلماء فكرة وجود لغة اخرى و بعضهم دافع بشدة ضد هذه الفكرة مثل جوزيف هاليفي و قضى ثلاث عقود يحاول ان يفند هذه الفكرة و كان تفسيره لوجود هذه اللغة الغريبة ماهو إلا رموز سرية ابتدعها كهنة بابل لتدوين اسرار شعائرهم الدينية و قد أخرت ابحاث هايلي العلماء من فك رموز الخط المسماري السومري.
إذا كيف تم فك رموز اللغة السومرية؟
بعد ان تم التاكد من وجود اللغة السومرية كيف تم فك رموزها؟ الحقيقة و على الرغم من ان اللغة السومرية لغة غير معروفة الإنتماء أي على عكس الأكدية التي تنتمي إلى عائلة اللغات السامية، لا تنتمي السومرية إلى أي عائلة و على الرغم من انها لغة انقرضت منذ زمن بعيد إلا ان فك رموزها لم يكن صعبا كما كان فك رموز اللغة الأكدية، كيف ذلك؟
كانت اللغة السومرية بالنسبة للأكديين لغة مقدسة، نعم لغة مقدسة حيث ان الأكديين اقتبسوا أساسيات دينهم من السومريين و تلك الأساسيات كانت مقتبسة بلغة السومريين لذلك مكانة السومرية بالنسبة للآكديين كمكانة اللاتينية بالنسبة للمسيحيين اصبحت هي اللغة التي تتلى بها صلوات الكهنة و تدود الأدعية بها بل و حتى ان بعض النصوص الادبية إستخدمتها بل حتى ان هناك لوح مسماري مدون بالاكدية يذكر قصة لكاهن لايعرف اللغة السومرية فيتأسف على زمن لا يعرف فيه الكهنة اللغة السومرية..
في مكتبة الملك آشور بانيبال الذي يفتخر في اكثر من مناسبة كونه يجيد اللغة السومرية تم العثور على آلاف الالواح الطينية التي تحوي معاجم و قواميس ثنائية اللغة وضعت لغرض حل و فك رموز اللغة السومرية اي انها احتوت الكلمات السومرية مع ترجمتها الأكدية للحفاظ عليها و لتسهيل تعليمها للأجيال القادمة ففي الفترات المتآخرة اصبحت السومرية لغة نخبوية و لا يتكلم بها السكان العاديون انما اختصت بالكهنة و ارباب المكتبات و الأدباء.
بإستخدام هذه المعاجم و بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الالواح الطينية التي دونت بالسومرية التي عثر عليها في جنوب العراق في نفر و كيش و غيرها و بمقارنة الملاحم و الاساطير و الترانيم التي كتبت بالأكدية و مقارنتها بأصولها السومرية تم فك رموز اللغة المسمارية بالكامل في بدايات القرن العشرين و قد سؤل عالم السومريات الأستاذ العلامة سامويل نوا كريمر إن كان العلماء اليوم يفهمون السومرية و يتحدثونها بطلاقة قال:
لو قدر لسومري ان يسمعني أتحدث بالسومرية لبتسم و قال ان لكنته مضحكة
أي ان إجادتهم للسومرية كاملة تماما إذا يعود الفضل في فك الرموز السومرية بالأساس إلى الاكديين بفرعيهم البابلين و الآشوريين لأهميتها بالنسبة لهم بالإضافة تظافر جهود علماء امثال رولنسن و هنكز و سايس و لينورمان و هاوبت و برونو و برنس و دانجن و غيرهم كثيرون
حلقتنا القادمة ستكون هي الحلقة الأخيرة التي سنتكلم فيها عن بعض الصعوبات التي واجهت العلماء في فك الرموز كما سنذكر مصادر هذه السلسلة و التي تحتوي على الكثير من العلومات المفصلة لمن يريد الزيادة
معجم مسماري من مكتبة آشوربانيبال محفوظ في المتحف البريطاني
الصورة تظهر آرفينغ فينكل مساعد أمين المخطوطات الرافدينية في المتحف البريطاني
شاهدنا الصعوبات التي واجهت العلماء الذين حاولوا فك رموز الخط المسماري و المحاولات المستمرة و المثيرة للإعجاب التي قام بها بعض من كانت لهم الريادة في هذا المجال حتى تمكنوا و خلال ثلاث قرون من العمل المستمر الدؤوب أن يحيوا لغات لم يتكلم بها احد منذ آلاف السنين فاتحين نوافذ على عوالم محيت من ذاكرة الإنسانية و أعادت حسابات البشرية من جديد في تاريخها كما و اعطت فهم جديد لحاضرنا.
لم تكن تلك بالعملية السهلة فبالإضافة إلى كل المشاكل و المصاعب التي طرحت في الحلقات السابقة و التي انحصرت في الخط المسماري نفسه و رموزه هناك بعض الصعوبات الاخرى التي سنلخصها في هذه السطور.
تمتد تلك الصعوبات لتشمل الالواح المسمارية فالباحثون لا يعثرون على الالواح سليمة في اكثر الاحيان بل تكون مكسورة و مهشمة إلى قطع صغيرة، في هذه الحالة يقوم علماء الآثار بتجميعها بدقة في عمل يشبه تجميع اجزاء معقدة قطعت إلى قصاصات عديدة صغيرة و يمكننا تقدير صعوبة هذا العمل إذا تصورنا ان بعض تلك الاجزاء تصل حجم حبة الفاصولياء.
اما اذا اختلفت اوقات اكتشاف قطع اللوح الواحد ففي بعض الاحيان تعثر بعثات مختلفة على قطع تعود للوح واحد و لفك محتويات هكذا لوح يجب دراسة كل هذه القطع في المتاحف المختلفة و هذا حدث حتى في نصوص ملحمة كلكامش التي كانت بعض اجزاء ألواحها موزعة على عدة متاحف.
في نفس الوقت كان فك رموز لغات أخرى اسهل فعلى سبيل المثال اللغة الأوغاريتية حلت بسنوات قليلة و وضعت لها المعاجم و كتب القواعد و كذلك اللغة الحيثية.
كما و من الجدير بالذكر ان هذا العمل الدؤوب في فك رموز هذه اللغات يعود لأهميتها و للتفاصيل التي تضمنتها تلك النصوص فعلى سبيل المثال لاتزال هناك الكثير من اللغات التي لم تفك رموزها كالكتابات الصورية للأتروسكان في إيطاليا الذي لم يكن نتاجهم بتلك الاهمية الذي يدعو العلماء إلى صرف جهودهم نحوه
في هذا البحث استخدمنا اربع مراجع يمكن للمهتم بزيادة معلوماته مراجعتها هي:
- قواعد اللغة السومرية تأليف الدكتور فوزي رشيد
- قواعد اللغة الأكدية تأليف الدكتور فوزي الرشيد
- المعجم المسماري تأليف الدكتور نائل حنون
- السومريون تأليف الأستاذ سامويل نوا كريمر