لماذا لا يتم الأحتكام الى الكتب المقدسة في البحث التأريخي؟
علي طالب
ولدت العلوم مع ولادة الإنسان على هذه الأرض وبتطويرها طور الإنسان نفسه فكان تراكم المعلومات نتيجة الخبرة المكتسبة مع مرور الزمن سبيلا لوضع إسس و قوانين لحكم هذه العلوم.... فالتبويب على سبيل المثال سهل من البحث العلمي و قدم نتائج أدت إلى تطور حضاري كبير كما شهدناه في اليونان القديمة، و لربما كان هذا من ابرز إنجازات الحضارة الإغريقية، فالفلسفة و النظم السياسية على سبيل المثال لم تخترع في اليونان كما يعتقد الكثيرون بل هي في الحقيقة وجدت في اغلب الحضارات القديمة كما نشهد آثاراها في حضارة وادي الرافدين و وادي النيل و غيرها من الحضارات التي سبقت الحضارة اليونانية ويمكن إلتماس ذلك في الأبعاد الفلسفية للأساطير و الأفكار اللاهوتية عند القدماء، لكن ما قام به اليونانيون و يحسب لهم هو تبويب العلوم و تصنيفها و وضع الأسس القويمة و على هذا الأساس قدم اليونانيون هذا الكم الرائع من الإبداعات العلمية التي نعيش آثارها إلى اليوم و من يومها بدأ العلماء يقسمون و يصنفون و يضعون الأسس و القواعد التي من شانها ان تنظم العلوم و تحكمها وفق معايير من شانها ان ترفع العلم و تطوره....
هل التأريخ علم؟
مناظرة قديمة جديدة لم يقف المتناظرون على حل حتى اليوم ... هل التأريخ علم بحت كالفيزياء و الكيمياء او يندرج ضمن العلوم الإنسانية كالإجتماع او هو من الفنون و الآداب؟؟
حقيقة عدم قدرة التأريخ للخضوع إلى التجربة و الترقب و البرهان و الوجود المادي كانت سببا في إقصاء التأريخ من مجموعة العلوم لدى متبنين هذه النظرية فالتأريخ لديهم يختلف في طرق الوصول إليه عن باقي العلوم ...
التأريخ هو بحث و نظر و نقد ...... ابحث في مخلفات الماضين اقرأ سجلاتهم نقب و تمحص في ما خلفوه من آثار بكل أشكالها لانها المصادر الوحيدة للتأريخ و بزوالها يزول أي دليل مادي آخر عليه و لا يبق إلا كلمات من دونوه و التي لا تكتسب المصداقية نسبا إلى النزعة الإنسانية إلى الشيل و الحط و التزيين و التزييف و النسيان و السهو و سوء الطرق المستخدمة للتدوين.
لذلك وضع العلماء اسسا و احكاما في دراسة التأريخ و أولها و المرافق للنصوص التأريخية هو تجريح المؤرخ .... من هو؟ في أي زمن عاش؟ تحت أي حكم؟؟ هل كان فقيرا؟ غنيا؟ ما هو دافعه في تدوين هذا التأريخ؟ هل ذكره أحد بسلب أو إيجاب؟ هل تتوافق الآثار القادمة من ذلك العصر مع ما جاء به؟ هل تتوافق النتائج التأريخية التي طرحها مع تسلسل الأحداث الأخرى؟ هل كان مدفوعا؟ هل يدفعه إيمانه؟
بعد كل هذا البحث تتبلور النظرية التأريخية و توضع وفق هذه الأسس و تعرض على الآخرين ليتلقفوها مرة أخرى بالنقد و التجريح و هي آخر مراحل البحث التأريخي لتقوم النظرية على أساس هذا النقد و تقدم للمتلقي مع ما يرافقها من نقد مع الإيمان المطلق بعدم قطعيتها
هذه هي أسس و المعايير الذي يخضع لها البحث التأريخي
هل للكتب المقدسة مكان في البحث التأريخي؟
الكتب المقدسة تتفاوت في قدمها و انتماءاتها و هي بلا شك محملة بكميات هائلة من المعلومات و التي تشمل في اكثر احيانها قصص التأريخ القديم لابل قصص النشوء الأول و الخلق الأول و تتدرج هذه الكتب في ذكر المسيرة التاريخية للكون لربما حتى تصل إلى مرحلة صدورها و تتجاوز التأريخ أيضا لتدخل في الفلسفة و الطب و الاجتماع ....
الآن هل تستند الكتب المقدسة إلى الأسس و المعايير الموضوعة من قبل العلماء لحكم البحث التاريخي او العلمي؟؟
بلا شك الكتب المقدسة لا تلتزم بهذه المعايير كونها موضوعة فلا تعترف بها الكتب المقدسة بالإضافة إلى أن مصادر الكتب المقدسة هي ليست ذاتها مصادر البحث العلمي فالأولى منقولة من قوى عليا إلى الإنسان و ليست مستندة إلى بحث و نظر و ترقب و غير قابلة للنقد اما اكبر معضلة في تقبل الكتب المقدسة كمصادر للتأريخ هو كونها فئوية ... أي ان كل منها ينتمي إلى فئة من البشر و العلم يحتاج إلى أرض مشتركة لينطلق منها للجميع في حين ان الكتب المقدسة محصورة في أيمانات الفئات و فيها كثير مما تتفق عليه الفئة و يختلف عليه الآخرون و يمكننا ان نلتمس بعض الأختلافات التأريخية في التوراة و الإنجيل و القران...
لذلك الرأي العلمي لا يأخذ بالكتب المقدسة و هذا بلا شك لا يعتبر إنتقاصا منها ... بالتأكيد لا ... بل لإنها لا تخضع للمعايير الموضوعة التي تكلمنا عنها لأنها و بكل بساطة من مصادر مختلفة و غير محكومة بالاسس العلمية المتفق عليها من قبل العلماء و التي من وجهة نظرهم هي الأصلح لتطوير العلم ...... فالبحث التأريخي المستند إلى البحث و النظر و النقد هو مقبول كونه معروف المصدر و له دلائل مادية ... اما البحث المستند إلى الكتب المقدسة فهو مختلف في معلومية او الإعتراف بمصدره ... فالتوراة على سبيل المثال متهم بكونه موضوع او محرف في نفس الوقت يتهم الإنجيل نفس الإتهام و لا يستثنى القران من هذه الإتهامات بمعنى آخر الكتب المقدسة غير متفق عليها ...... اما البحث العلمي فهو ثابت و متفق عليه و مصادره معروفة و متفق عليها أيضا و له اثار مادية ملموسة.
إذا لماذا أرتبطت التوراة بتأريخ وادي الرافدين ولماذا غالبا ما تقرن قصص التوراة بأساطير وادي الرافدين؟؟
قبل بدأ علم الآثار في العالم كانت التوراة من اهم مصادر التأريخ لانها أولا اكثر الكتب تداولا ثانيا كونها كتاب ديني فهي الأقرب إلى الإنسان من غيرها و مطالعتها ارغب اليه ثالثا كون التوراة يؤرخ لأحداث شملت خلق الكون في اقدم الأزمان و مرت بالسبي البابلي و انتهت بالرؤيا المستقبلية كما جاء في سفر الرؤيا جعلها مصدرا للتأريخ في ذلك الوقت
المطالع للتوراة يلاحظها تدخل في تفاصيل تاريخية دقيقة على عكس القران فلا تكتفي بالأحداث بل تنتقل إلى أسماء المدن و الملوك ...... وجود هذه المدن و هؤلاء الملوك على ارض الواقع دفع الفضوليون و المدفوعون بالشك أو الإيمان إلى التحري عن مدى مصداقيتها فكان البحث الديني المولد الأول للبحث التأريخي و إيجاد مواطن الأنبياء و ملعب دعواهم سير أولى عمليات البحث و التنقيب و كان مبينا على التوراة لذلك كانت المكتشفات تربط بشكل او بآخر إلى التوراة لذلك نرى ان غالبا ما تربط مكتشفات وادي الرافدين بالتاريخ التوراتي... مع إلتزام علماء الآثار المؤسسون بالمعايير و الاحكام التي تربط علم الآثار بالمصارد الملموسة و المقارنات التاريخية المعروفة و الغير متأثرة بالإيمانات تم فصل التاريخ التوراتي عن تاريخ وادي الرافدين مع بقاء بعض الأثار و المقارنات و انعكاس محاولات الإثبات من كون التوراة مصدر التأريخ إلى كونه منسوخ عن مصادره الأصلية.
هل يمكن ان نلتمس هذا في التأريخ الإسلامي؟؟
نعم بلاشك يمكن إلتماس ذلك بالتأريخ الأسلامي .... أي متتبع لكتب التأريخ المدونة من قبل علماء عرب او مسلمون سواء بالعصرين الأموي او العباسي سيلاحظ ان الكثير من هذه الكتب إستندت في ابحاثها على الكتب المقدسة كالقران و الأحاديث النبوية وأحيانا القصص التوراتية، بل حتى في زمننا الحديث هناك بعض الباحثين يستندون إلى النصوص القرانية و الأحاديث النبوية في أبحاثهم التأريخية و لوكان القران كالتوراة في تفاصيله و كان الباحثون و المنقبون الأوائل من المسلمون لكانت المقارنة بين القران و المصادر الآثارية.
اذا الاستناد إلى النصوص الدينية في الأبحاث التأريخية موجود وله باحثيه لكنه مفصول عن البحث الذي يعتمد الطرق العلمية البحتة ..
اذا هل تفند الأبحاث التأريخية النصوص المقدسة؟
في كثير من المواضع نرى ان هناك ترابط كبير بين ما جاء في الكتب المقدسة و المصادر التأريخية و المقارنة اكبر ما تكون بين القصص التوراتية و المصادر الآثارية دون التطرق إلى القران لعدة أسباب ذكرنا بعضها في الأعلى و هي كون التوراة أقترنت بالبحث الآثاري في وادي الرافدين و أيضا كون الباحثين هم ممن ينتمون إلى الديانتين اليهودية او المسيحية و التي تعتبر التوراة كتابها المقدس او جزء منه كما لدى المسيحية و سبب اخر هو كون التوراة اكثر تفصيلا و عمقا في مباحثه التأريخية و هذا يزيد في فرصة تلاقي المعلومات ناهيك عن كونه اقدم من القران و كان له إحتكاك مباشر بثقافات وادي الرافدين القديمة ....... اما ما لدينا من أبحاث لكتاب عرب فهي تتناول المقارنة مع التوراة أيضا لسببين رئيسين الأول كونها عادة تكون ترجمة عن نصوص اجنبية او مستوحاة من نصوص اجنبية ثانية كونهم يحاولون قدر الإمكان الإبتعاد عن الإحتكاك بالقران مخافة التعرض لهم من قبل المتحمسين مع العلم ان بعض المقرانات مع التوراة تصلح أيضا لتقارن مع القران أيضا كقصة موسى و الطوفان مع اختلاف في عمق التفاصيل المنقولة في التوراة عن ما هي في القران ولكن هناك تلاقي لا بأس به في الخطوط العريضة...
لكن هذا ليس بالضرورة يفند التوراة او القران و يبني فكرة الاقتباس و النسخ من النصوص القديمة بل يمكن قلب الطاولة لجعلها مصادر اثبات مساندة ... أي ان ورود قصص الطوفان في التوراة و القران يؤيده وجودها في النصوص المسمارية اذا ما فرضنا حدوث الطوفان واقعيا فما الضير من كونه ورد في نصوص موضوعة كالمصادر المسمارية و نصوص مقدسة كالمصادر المقدسة؟
لذلك اللازم بقاء فضاء العلم مفتوح لكل الأطاريح و مناقشة ماهو حساس ضروري لحل الإشكال و اهم شي في ذلك هو مناقشته بهــــــــــدوء مع يقينية احتمال الخطأ
علي طالب